كتب أحمد مدلج في “الأخبار”:
في ظل انهيار قيمة العملة الوطنية وارتفاع أسعار المواد الغذائية والمحروقات، لم تعد مداخيل الناس كافية لتغطية كلفة حاجاتهم الأساسية. صُرِفَ موظفون كثر من أعمالهم ما رفع نسبة البطالة إلى نحو 35%، ليلامس عدد العاطلين عن العمل الـ 500 ألف نهاية عام 2021 (المصدر: الدولية للمعلومات). فيما شهدت نسبة الفقر قفزة هائلة من 42% عام 2019 إلى 82% عام 2021 (المصدر: ESCWA). يوماً بعد يوم، تتفاقم الأزمة الاقتصادية ويتدهور الوضع المعيشي من سيء إلى أسوأ، ولا يبدو ان تشكيل حكومة او تحديد موعد للانتخابات، ولا إطلاق مبادرات إصلاحية والوعود بمساعدات اجتماعية، قادر على تخفيف المعاناة بشكل جدّي ومستدام. العثور على وظيفة أو مصدر دخل مناسب بات أمراً صعب المنال، فيما يزداد عدد المتسوّلين على أنواعهم: «المنظّم» في مجموعات، والعفوي الذي يعاني الفقر المرض والجوع، فيما المؤكد أن ليس كل المتسوّلين لاجئين سوريين.
«عمو الله يخليك بس ألف ليرة». لازمة يكررها رامي (10 سنوات) مئات المرات منذ اللحظة التي يوصله فيها والده الى شارع الحمرا صباحاً وحتى آخر الليل حين يعود الوالد لجمع «الغلّة». يجوب رامي الطرقات وحده؛ يلاحق السيارات، ويبحث في مكبات النفايات عن أشياء يمكن ان يحوّلها الى العاب، او عن بقايا سندويش او «شقفة» منقوشة. يراقب أولاداً في مثل سنه يمرون في سيارات فخمة، ويبكي احياناً من دون ان يستدرّ الولد «السوري» شفقة أحد، علماً أنه لبناني منذ الولادة.
لمنير، الساكن في المصيطبة، قصة مختلفة. «بعد الأزمة ما عدت قادر ادفع الأجار وما في معي مصاري». الرجل البالغ من العمر سبعين عاما لم يعد يتلقى تحويلات مالية من أبنائه المغتربين. «وقت السحور بمرق على الافران والمطاعم بمار إلياس لأطلب من العالم شو ما بيطلع منهم».
طارق (30 سنة) يجول في الأحياء المزدحمة في سن الفيل حاملاً وصفة طبيب دُوّنت عليها أسماء أدوية يحتاج اليها للعلاج من مرض السرطان. بعد حديث معه لمعرفة نوع السرطان المصاب به ومصدر الوصفة، يتبين ان طارق مدمن على الهيرويين ويتسول لشراء المخدرات. يردّ على عرض بمساعدته للعلاج من الإدمان بأنه يفضّل ان يبقى «مطفي» كي لا يواجه الأوضاع المزرية.
القانون يُعاقب و«يُشغّل» ويمنع
القانون يعاقب المتسوّلين بالحبس مع التشغيل لمدة «شهر على الأقل وستة أشهر على الأكثر»، وكل من غادر مؤسسة خيرية تعنى به وتعاطى التسول، عوقب، ولو كان عاجزاً، بالحبس لمدة «شهر على الأقل وستة أشهر على الأكثر» (مادة 610 و611 و612 من قانون العقوبات).
وتشدد العقوبة إذا كان المتسول يستجدي في الظروف الآتية:
– التهديد أو أعمال الشدة
– حمل شهادة فقر كاذبة
– التظاهر بجراح أو عاهات
– التنكر على أي شكل كان
– استصحاب ولد غير ولده أو أحد فروعه ممن هو دون السابعة من العمر
– حمل أسلحة أو أدوات خاصة باقتراف الجنايات أو الجنح
– حالة الاجتماع ما لم يكن الزوج وزوجته أو العاجز وقائده.
فيعاقب بالحبس من ستة أشهر إلى سنتين مع التشغيل، فضلاً عن وضعه في «دار للتشغيل» إذا لم يكن عاجزاً وبالحبس البسيط للمدة نفسها إذا كان عاجزاً. ويمكن كذلك أن يفرض تدبير الحرية المراقبة على المتسوّل (مادة 613 من قانون العقوبات).
يتيح القانون، اذاً، للقاضي وضع المتسولين في «دار للتشغيل» يفترض ان يمنعهم من العودة الى التسوّل، علماً أن دور التشغيل غير متوفرة حالياً. لذا يحيل بعض قضاة التحقيق المحكوم عليهم بالتسوّل إلى مؤسسات رعاية اجتماعية غير حكومية.
أما من كانت له من المتسوّلين «موارد أو كان يستطيع الحصول على موارد بالعمل واستجدى لمنفعته الخاصة الإحسان العام في أي مكان كان، إما صراحة أو تحت ستار أعمال تجارية، وكل من أصبح بسبب كسله أو إدمانه السكر أو المقامرة مجبراً على استجداء المعونة العامة أو الإحسان من الناس»، فللقاضي أن يحكم بـ«منعه من ارتياد الحانات التي تباع فيها المشروبات».
الاتجار بالأطفال
غالباً ما يكون الطفل ضحية وأداة للتسول عبر ارغامه على جمع المال لصالح والديه او اشخاص آخرين بالاتفاق مع والديه. ويمكن عدّ هذا الطفل ضحية جريمة الإتجار بالأشخاص (قانون رقم 164 تاريخ: 24/08/2011). وكان لبنان قد التزم منذ عام 2005 باتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الوطنية (اتفاقية «باليرمو») والبروتوكول الملحق بها المتعلق بمنع وقمع ومعاقبة الاتجار بالأشخاص و«بخاصة النساء والأطفال»، وإصدار النصوص القانونية اللازمة لمنع ارتكاب جريمة الاتجار بالأشخاص وملاحقة مرتكبيها ومعاقبتهم، ووضع نظام قانوني لحماية ضحايا هذه الجريمة ومساعدتهم. وأُدخلت فعلاً تعديلات على قانون العقوبات بحيث بات يتضمن تعريفاً لجريمة الاتجار بالأشخاص على النحو الآتي: «اجتذاب شخص أو نقله أو استقباله أو احتجازه أو تقديم المأوى له، بهدف استغلاله أو تسهيل استغلاله من الغير، وذلك بواسطة التهديد بالقوة أو استعمالها أو الاختطاف أو الخداع أو استغلال السلطة أو استغلال حالة الضعف، أو بإعطاء أو تلقي مبالغ مالية أو مزايا». وتعرّف عبارة الاستغلال على أنها تشمل «التسول»، كما تشمل إرغام المجني عليه على القيام بأعمال منافية للحشمة أو تعاطي الدعارة. ويفترض، بحسب القانون، عدم الأخذ بموافقة المجني عليه الذي لم يتم الثامنة عشره من العمر على هذه الأفعال. ويحدد القانون العقوبات بحق الضالعين بالاتجار بالبشر تبعاً لهوية الضحية وخطورة الوسائل المعتمدة لارتكاب هذه الجريمة. واللافت ان لوزير العدل، بموجب القانون رقم 164/2011، ان يستعين بمؤسسات أو جمعيات متخصصة لتقديم المساعدة والحماية لضحايا جريمة الاتجار بالأشخاص. وتصادر المبالغ المتأتية عن الجرائم المنصوص عليها في هذا القانون وتودع في حساب خاص في وزارة الشؤون الاجتماعية لمساعدة ضحايا هذه الجرائم.
من التسوّل الى الاجرام
تندرج جريمة التسول في الباب العاشر من قانون العقوبات، وعنوانه «الجرائم التي يرتكبها أشخاص خطرون بسبب عادات حياتهم». لكن هل يمكن عدّ الأشخاص، ومن ضمنهم الأطفال، الذين يقدمون على التسول «أشخاصاً خطرين»، أم ان ادراجهم تحت هذه الصفة يتعلق بالجرائم الخطيرة التي يمكن ان ينجرّوا اليها في سياق التسوّل؟
مديرة المشروع الوطني لمكافحة التسول في وزارة الشؤون الاجتماعية سيما معاوية منذر حذرت، في مقابلة، من ان «طفل اليوم هو مجرم الغد»، لافتة إلى أنه «من دون توجيه الأطفال على الطريق الصحيح وإعادة تأهيلهم ودمجهم في المجتمع سيتحولون إلى مجرمين. هذه ليست ظاهرة تسول بل قنبلة موقوتة».
وشرحت ان إقفال المدارس الرسمية أبوابها أدى إلى انتقال عدد كبير من الاطفال من المدارس إلى الشوارع، فـ «ثلاث سنوات اضراب واقفال عم تطلع براس الولاد، أجيال بأكملها تخربطت حياتهم».
وتلفت منذر إلى أن المنظمات الدولية تمنح مساعدات مالية (20-30$ للطفل شهرياً) لأهالي أطفال اللاجئين السوريين بلا شروط، فيما «يجب أن يقترن إعطاء أي مساعدة مالية بشرط ادخال الأطفال إلى المدارس المتوفرة بدلاً من ارسالهم إلى الشوارع». وتسأل: «بعدما دفعت تكاليف تعليم أطفال النازحين السوريين من كتب دراسية ومواصلات ورواتب أساتذة، لماذا لا يتم إرسالهم إلى المدارس؟». وشددت على ان بداية الحل تكون بوضع «آلية قانونية ترعى تنظيم صرف الهبات والمساعدات للاجئين كوضع شرط إدخال اطفالهم إلى المدارس». منذر أشارت إلى أن الأطفال المتسولين «يتم استغلالهم من قبل اهاليهم من اجل المال»، ونصحت بعدم المساهمة في استغلال الأطفال عبر اعطائهم الطعام والملابس بدل الأموال.
مؤسسة ترعى الأطفال المتسولين
تلفت منذر إلى الأطفال الذين يعملون ساعات طويلة من دون أي مقابل ومن دون أي راحة وطعام معرضون لخطر الموت خلال تسولهم في الطرقات أمام السيارات، مشيرة إلى أن لا قدرة لوزارة الشؤون الاجتماعية على ملاحقة «الشاويش» الذي يستغل الأطفال. بل «يقتصر دورنا على التوعية أو تأمين مركز رعاية بعد طلبٍ من قاضي الأحداث. لكن هناك مشكلة أخرى، إذ لا توجد مؤسسات رعاية للأطفال غير اللبنانيين. ولدى اتصالنا بأي من المؤسسات يأتي الرد غالباً: نحنا جمعية نهارية، ولا يمكننا وضع أطفال شوارع مع أطفال يتامى بسبب سلوكهم العنيف». لذلك، هناك حاجة ملحّة لإنشاء مؤسسة ترعى الأطفال المتسولين، و«ليس المطلوب فقط الدعم الاجتماعي النفسي من الجمعيات، بل انشاء مؤسسات تستقبل الأطفال الموجودين في الشوارع».
وتختم منذر بأن «الطفل المتسول ليس بحاجة إلى مبلغ من المال، بل هو بحاجة إلى لعبة، إلى طعام، إلى طفولته. عند إعطائه المال لن يستفيد منه بل يسلّمه إلى الشاويش وفي كل مرة يتم إعطاؤه مبلغاً من المال يتم استغلاله أكثر».
ثلاث فئات
حدّدت مديرة المشروع الوطني لمكافحة التسول في وزارة الشؤون الاجتماعية سيما معاوية منذر ثلاث فئات من المتسولين:
– الفئة الأولى وصفتها بـ«الأخطر والأهم»، وتتألف من أطفال ربما يصل عددهم إلى ما بين 20 و25 ألفاً، غالبيتهم من حملة الجنسية السورية (60%)، ويتحمل مسؤولية تضخّمها القطاع التربوي والمنظمات الدولية والأهالي والضابطة العدلية.
– الفئة الثانية تضم بعض الغجر الذين يعتبرون التسول مهنة يتوارثونها و«نمط حياة» خاصاً بهم.
– الفئة الثالثة تضم «كبار السن» ممن تخلى أبناؤهم عنهم أو فقدوا أعمالهم وأصبح التسول السبيل الوحيد أمامهم للبقاء على قيد الحياة.