Site icon IMLebanon

الأزمة تسحَق الأساتذة في لبنان!

كتب فؤاد بزّي في “الأخبار”:

يتقاضى أساتذة التعليم الرسمي، بمختلف فئاتهم وتسمياتهم، رواتب ثابتة نعم، ولكنها عبارة عن ورق مطبوع على سعر الصرف الرسمي، بينما يعيشون تفاصيل حياتهم اليومية على سعر صرف السوق السوداء. تسحقهم الأزمة مع مرور الأيام وهم ليسوا كباقي موظفي الإدارة العامة يلتحقون بالدوام ليوم أو اثنين أسبوعياً، لا، بل عليهم التواجد يومياً في مراكز عملهم (أربعة أيام أسبوعياً خلال العام الدراسي الجاري)، كلّما ارتفع صوتهم بالمطالبة وُضعوا بين مطرقة العيش الكريم وسندان حقوق التلامذة في المدارس الرسمية، والدليل الأبرز على ذلك إضرابهم قبل بداية العام الدراسي حيث صوّتت جمعيّاتهم العمومية إلكترونيّاً للمرة الأولى ضد العودة، وأعادوا التأكيد على النتيجة التي لم تُعجب قيادة الرابطة السّابقة ومن خلفها، في جمعيات عمومية حضورية أنّهم لا زالوا غير مقتنعين بالعودة ففُتحت الثانويات بعصا الأحزاب (كلّ الأحزاب) السّحرية وحُمّلوا مسؤولية هجرة التلامذة من المدارس وإنهاء التعليم الرسمي إذا استمرّ الإضراب، ومنذ ذلك الحين يعيشون على الفتات والوعود والبيانات.

كانت الوزارة قد أعلنت عن قدرتها على صرف منح اجتماعية استثنائية لكلّ موظفيها (إداريين ومعلمين) قيمتها 90$، لا أحد يعرف السّر خلف هذا الرقم، فبدأ الأخذ والرد حول طريقة الدفع والعملة التي ستُصرف على أساسها المبالغ، فكانت الليرة اللبنانية على سعر منصة صيرفة وهنا بدأت عجلات البيروقراطية اللبنانية المعروفة بالدوران فأعادت الوزارة الطلب من الأساتذة إرسال أرقام هوياتهم البنكية iban وكأنّهم دخلوا الوظيفة العامة اليوم، وأُعيد التدقيق بها مراراً وتكراراً وصولاً إلى اليوم المنشود، يوم صرف المنحة، ففوجئ الأساتذة بصفوف لا تنتهي أمام الصرّافات الآلية تارةً وسقوف للسحوبات تارةً أخرى، وحتّى من حاول أن ينزل بها إلى السوبرماركت لم يستطع الاستفادة مع وضع الأخيرة شرط الدفع 50% عبر البطاقة المصرفية و50% كاش، وحتى اليوم هناك أساتذة لم تحصل على أيّ دفعة من هذه المنحة بالإضافة لعدم انتظام في الصرف. أما أنصاف الرواتب العامة لكلّ الموظفين فصُرفت عن شهرَيْ تشرين الثاني وكانون الأول من عام 2021 خلال شهر آذار الحالي، بعدما استعمل المرسوم الخاص بها كورقة ضغط بيد رئيس الجمهورية كي يعود مجلس الوزراء إلى الانعقاد.

هناك في مخيّلة البعض صورة وردية عن الأساتذة ومجتمعهم الضيّق، ترسمهم على أنّهم نخبة المجتمع المؤثّرة والقادرة على فرض التغيير وحتى يتخيّل البعض أنّهم قادرون على قلب الطاولة في أيّ انتخابات قادمة نسبة إلى المعاناة التي يمرّون بها اليوم، ولكن ما لا يعرفونه أنّهم، بحسب سارة الأستاذة في التعليم الثانوي، يحاولون البقاء على قيد الحياة فقط. فهي تتقاضى اليوم مبلغاً لا يتجاوز الثلاثة ملايين ليرة ويتوجّب عليها دفع فواتير شهرية أساسية مثل بدل الاشتراك الكهربائي بمولّد الحي الذي وصلت قيمته هذا الشهر إلى مليونين وستماية ألف ليرة «لقد نفِد الراتب، لم يعد يكفيني للوصول إلى مكان عملي».

معاناة التنقّل هذه تتضاعف في المناطق (الجنوب أو البقاع) حيث المسافات الفاصلة بين منازل الأساتذة ومراكز العمل أكبر بكثير، ولا مواصلات عامة فعّالة يمكن الاتّكال عليها، ولحلّ هذه المشكلة قامت وزارة التربية هذا العام بفتح المجال أمام الأساتذة للانتقال إلى مدارس وثانويات أقرب إلى منازلهم مع ترك المعيّنين أخيراً بالمرسومَين 6006 و4342 معلّقين في ثانوياتهم البعيدة ليوم واحد أو اثنين كون القانون لا يسمح لهم بالانتقال الكلّي قبل مرور خمسة سنوات على الالحاق.
أما حسين، أستاذ الكيمياء في إحدى ثانويات الضاحية فيسخر من فكرة صورة الأستاذ التي درس طويلاً عنها في كليّة التربية وهو يعمل اليوم بعد الدوام التعليمي في إحدى التعاونيات بصفة محاسب على الصندوق. يعترف بأنه حاول الحفاظ على هذه الصورة: «ففتّشت عن فرصة عمل ثانية بعيداً عن منزلي ومحيط سكن التلامذة كي لا يراني أحد رغم أنّ المنقصة لا تكمن في نوعية العمل بل في عدم قدرتي على تأمين الحليب لابني الذي لم يتجاوز عمره الأشهر الستة»، لافتاً إلى أنّ راتبه في التعاونية يساوي ثلاث مرات راتبه في التعليم.

أما الكابوس الذي يقضّ مضاجع الأساتذة اليوم فهو الحاجة إلى دواء أو استشفاء أو حتى زيارة عيادة طبيب، سابقاً كانت الجهات الضامنة قادرة على تغطيتهم بشكل جيّد أما اليوم فهذه الجهات حالها كحال الدولة في انهيار تام. تروي لنا أستاذة رفضت الكشف عن اسمها أنّها تعرّضت في بداية العام الدراسي لعدوى كورونا أجبرتها على دخول المستشفى وكانت تكاليف العلاج عن كلّ يوم تساوي راتبها الشهري فطلبت الخروج قبل التعافي النهائي كي لا تضطر للاستدانة أكثر.

اليوم يقوم الأساتذة بالصّرف من لحمهم الحي، وهم لا يأخذون بدل أتعاب أبداً بل يصرفون على الوظيفة العامة فحتى الموازنات التشغيلية للثانويات إما محتجزة في المصارف أو لا تكفي، ففي إحدى ثانويات منطقة الضاحية الجنوبية لبيروت كان التعليم يتوقّف خلال الأيام الممطرة عند انقطاع الكهرباء بسبب الغياب الكلّي للإنارة فيما يقوم الأساتذة بشراء حاجتهم من الأقلام والقرطاسية، وأكثر ما يفاجئ هو طلب وزارة التربية المستمرّ إمدادها بعلامات الامتحانات رغم عدم وجود أوراق أو حبر للتصوير. يبدو أنّ الهدف من التعليم لم يعُد بناء الجيل الصاعد المفكّر الناقد المبدع أو المشاركة الفاعلة في الشأن العام، بل تمرير الأيام وانتظار شيء ما، أين هي جودة التعليم والمعلّم يفكّر في وسيلة للوصول إلى نهاية الشهر وليس في وسيلة تعليم ناجحة؟