كتب طوني عيسى في “الجمهورية”:
بعدما تأكّدوا، وبالأرقام، أنّ هزيمة «حزب الله» في الانتخابات النيابية باتت مستحيلة، يعمل خصوم «الحزب» لتنفيذ خطة جديدة، يطمحون من خلالها إلى انتزاع الغالبية النيابية الجديدة من يديه، ما يحافظ على حدّ من التوازن في السلطة. ما هي؟
هناك مَن يسأل: ما سِرُّ هذا الانفتاح الخليجي المفاجئ على لبنان، الذي بدأ الشهر الفائت ببيانات الترحيب المتأخِّر جداً بموقف لبنان من المبادرة الكويتية، ويتُوَّج حالياً بعودة السفراء، وأوَّلهم سفير المملكة العربية السعودية وليد البخاري، علماً أنّ لبنان الرسمي ما زال عملياً في موقع المتحالف مع إيران، و»حزب الله» لم يُظهِر أي إشارة لسحب يده من اليمن؟
أوساط «الحزب» تنظر بتشكيك إلى طبيعة هذا الانفتاح وتوقيته، وتقول: يريد الخليجيون التأثير على الشارع عشية الانتخابات، خصوصاً في غياب الراعي السنّي المحلّي، تيار «المستقبل»، ويعملون لخلق دينامية انتخابية تقلِّص من حجم الخسارة التي سيُصاب بها الخصوم في 15 أيار.
وواقعياً، لا ينكر المتابعون أنّ الحضور الخليجي، والسعودي خصوصاً، كانت له دائماً تأثيرات على المزاج السياسي والانتخابي في لبنان، وخصوصاً لدى الطائفة السنّية ومرجعياتها السياسية والدينية والاجتماعية. والطائفة تعيش اليوم حال انعدام للتوازن مع الخروج المفاجئ لتيارها الرئيسي، أي «المستقبل» من اللعبة.
لكن العارفين يقولون، إنّ الدور الخليجي الحالي ليس محصوراً بالانتخابات، بل يرتبط بتفكير أبعد، وهو دعم لبنان بنحو محدود ومحدَّد، لئلا يقع لقمة سائغة بكامله في شِدق إيران. وهنا جوهر المسألة. وقد تبلورت هذه الفكرة ونضجت في الأسابيع الأخيرة.
وما ساهم في إنضاج الفكرة هو حرب أوكرانيا. فالخليجيون قرّروا عدم الإنزلاق هناك إلى جانب الولايات المتحدة، ولم يقحموا مواردهم من الغاز والنفط في المواجهة مع روسيا، كما تمنّى الأميركيون. وهذا الموقف الخليجي مردُّه الفتور بينهم وبين إدارة جو بايدن. فواشنطن أظهرت إهمالاً لهم وانعدام تعاطف، فيما كانوا يتعرَّضون لضربات الصواريخ والمسيَّرات الإيرانية والحوثية الأخيرة.
هذا المناخ الخليجي الأكثر حيادية بين واشنطن وموسكو، أتاح لباريس أن تنطلق في مبادرة جديدة تجاه لبنان، قبل انغماس الرئيس إيمانويل ماكرون نفسه واللبنانيين في الانتخابات. وفي هذا الخضم، جاءت الزيارة المفاجئة التي قام بها الرئيس بشّار الأسد للإمارات.
الفكرة هي: «تجميد» وضعية الانهيار اللبناني عند المستوى الحالي لأشهر عدّة، أي لإتاحة المجال لكي تمرَّ فترة الانتخابات بالحدّ الأدنى من الهدوء. وبعد ذلك، يُفتح الباب للتسويات التي تقوم بإنجازها الغالبية النيابية الجديدة والسلطة التي ستفرزها، بتغطية إقليمية ودولية. وهذه الغالبية لن تكون بالضرورة لمصلحة «الحزب»، ولو ظهر اليوم أنّه «سيربح بالنقاط».
الخطة التي يجري تداولها في الأوساط المتابعة تقضي باستكمال ترميم العلاقات الخليجية مع الأسد، بحيث تكون عودة دمشق إلى الجامعة العربية، في القمة المقرّرة في الجزائر، في الخريف، تتويجاً لهذا المسار. وفي الموازاة، سيكون الخليجيون قد عادوا بقوة إلى سوريا وأبرموا معها اتفاقات إعمارية واستثمارية.
في المقابل، يريد الخليجيون من الأسد أن يفكّ ارتباطه بإيران. ويتردّد أنّهم سيقدّمون إليه الإغراءات في المقابل، على المستوى الإقليمي، بما في ذلك في لبنان، حيث يمكن أن يعود لدمشق وزنٌ في صياغة التسويات. ولا يعني ذلك عودة الوصاية السورية كما كانت في أي يومٍ مضى قبل آذار 2005، لكنه قد يذكّر بالتأثير الذي كان يمارسه نظام حافظ الأسد «تقليدياً» في لبنان قبل حرب 1975.
ما يطمح إليه الخليجيون والأوروبيون، ويوافق مصالح الإسرائيليين والأميركيين، ولا يعارضه الروس، هو أن يتمكنوا من خلق كتلة ثالثة في المجلس النيابي، محسوبة على دمشق، وتضمّ مسيحيين وسُنّة ودروزاً، وربما شيعة، تكون بمثابة «بيضة القبان» في المجلس المقبل.
بالترجمة العملية، مثلاً، إذا فاز «حزب الله» وحلفاؤه بغالبية 72 نائباً مقابل 56 لخصومه، يمكن احتساب ما لا يقلّ عن 15 نائباً على «الخط» الحليف لدمشق مباشرة. وهذه الكتلة هي التي ستتمكن من ترجيح الاتجاهات إذا مالت إلى هنا أو هناك أو اختارت تموضعاً محايداً. ويمكن ببساطة التدقيق في أسماء المرشحين على اللوائح في كل الدوائر واكتشاف ممن ستتكوَّن هذه الكتلة.
وهذا التوازن سيحدِّد الاتجاهات الحيوية، سواء في ما يتعلق بالانتخابات الرئاسية أو التسويات الداخلية المحتمل إبرامها في أي مؤتمر للحوار أو مقاربة لبنان للمفاوضات مع إسرائيل.
وبناءً على هذا التفكير، يعتقد الخليجيون والأوروبيون أنّ انتخابات 15 أيار لن تسلِّم لبنان لإيران، وأنّ الجهد الذي يبذلونه حالياً سيتكفّل بالتحضير للتوازن السياسي المطلوب تحقيقه بعد الانتخابات.
ولكن، هل يوافق الأسد على لعب ورقة التمايز الخطرة عن الحليف الإيراني، خصوصاً إذا كان السعوديون والأوروبيون هم الذين يدفعونه إلى هذا الاتجاه؟ وكيف تردُّ إيران على هذه المحاولة، وهي المتمسّكة بأذرعها ونفوذها في كل بقعة من الشرق الأوسط؟ وهل يغامر الروس بتوتير العلاقة مع طهران، إذا شجعوا الأسد على سلوك هذا المسار؟
الخبراء في الملف يقولون: إذا قُدِّم عرضٌ مُغرٍ للأسد، فسيتشاور مع الجميع، طهران والخليجيين والأوروبيين، ويتقاسمون الإغراءات. و»معجزة» النظام في دمشق، على مدى نصف قرن، هي أنّه باع واشترى وتقاضى أتعاب العمولة، ولم يدع أحداً يخرج زعلاناً من الصفقة. ولذلك، كل الاحتمالات مفتوحة.