لأول مرة في تاريخ فرنسا، حصل ممثلو أحزاب اليمين المتطرف مجتمعين على نسبة 30% من أصوات الناخبين في الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية الفرنسية، فيما فشلت الأحزاب اليسارية في بلوغ الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية، إذ أسفرت نتائج الدورة الأولى عن تأهل كل من زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبان والرئيس المنتهية ولايته إيمانويل ماكرون إلى الدور الثاني المزمع إجراؤه في 24 نيسان 2022. فكيف ساهم انقسام اليسار الفرنسي وتشرذمه، وكذلك سياسات الرئيس ماكرون في صعود اليمين المتطرف؟
تقول صحيفة لوموند الفرنسية إنه من خلال تبني الأجندة السياسية والاقتصادية لليمين الفرنسي، أدى الرئيس ماكرون إلى تغذية التيار اليميني بشكل كبير، وساهمت سياساته العدائية والمتناقضة ضد المسلمين بدرجة الأولى والمهاجرين، في تصعيد التوتر بين السلطات ومسلمي فرنسا وتعزيز انقسام البلاد.
وعمل ماكرون خلال سنوات حكمه على استراتيجيته معينة في إيجاد هوية فرنسية للمسلمين، تكون في المقام الأول غير مرئية، وثانياً غير مؤذية سياسياً، ولا تشكك في الوضع الراهن لسياسات فرنسا التمييزية تجاه سكانها المسلمين.
وأعلن ماكرون، مطلع تشرين الأول 2020 عن خطة مثيرة للجدل من أجل معالجة ما يسميه “الانفصالية الإسلامية” في فرنسا، زاعمًا أن الدين الإسلامي في “أزمة” بجميع أنحاء العالم، وأنه سيقوم بـ”تحرير الإسلام في فرنسا من التأثيرات الأجنبية”.
كما دافع ماكرون، عن رسوم كاريكاتورية مسيئة للنبي محمد، قائلاً إن “فرنسا لن تتخلى عن الرسوم”، وذلك على خلفية مقتل معلم لغة فرنسية، يدعى صموئيل باتي، على يد مسلم أغضبه إظهار المعلم رسومًا كاريكاتورية مسيئة للنبي محمد داخل فصل دراسي.
ووفقًا لوزارة الداخلية الفرنسية، تم إغلاق عشرات المساجد والمدارس ومؤسسات العمل الخيري الإسلامي في البلد الذي يضم نحو 5 ملايين مسلم، وهي أكبر أقلية مسلمة في دول أوروبا الغربية.
من جهته، يقول ألين غابون أستاذ الدراسات الفرنسية في جامعة فرجينيا ويسليان بالولايات المتحدة الأمريكية، في مقالٍ نشره موقع Middle East Eye البريطاني، إن فرنسا أصبحت أكثر كراهيةً للإسلام تحت قيادة ماكرون مقارنةً بما كانت عليه قبل انتخابه، وقد حدث ذلك بنسبةٍ كبيرة كنتيجةٍ مباشرة لخطاب وسياسات حكومته المناهضة للإسلام والمسلمين.
وهذا ما قلّل وعي الجمهور الفرنسي بالمسألة، وزاد خوفه من سكان البلاد المسلمين؛ إذ أصبح غالبية المواطنين الفرنسيين في عهد ماكرون يرون في الإسلام تهديداً وجودياً لـ”حضارتهم”، و”تقاليدهم”، و”قيمهم”، بحسب غابون.
شهد عهد ماكرون كذلك بروز نظرية مؤامرة “الاستبدال العظيم” إلى مقدمة النقاشات العامة، رغم أن غابون ذكر أنها نظريةٌ مرفوضةٌ من الغالبية باعتبارها محض خيالٍ مشين وعنصري وشديد الجهل.
وأوضح الكاتب الفرنسي غابون أن هذا النوع من النقاشات لم يقتصر على المرشح الرئاسي زمور أو ماري لوبان، اللذين يعتبر نجاحهما الصادم في حد ذاته نتيجةً مباشر أريكة لرضا البيئة السياسية والإعلامية عن خطابهما المتطرف، خصوصاً زمور.
ويرى غابون أن هذا التعميم السريع لمشاعر الإسلاموفوبيا قد تغذى بقوةٍ واستمرارية على خطاب ماكرون، واستراتيجياته الانتخابية، وسياساته المرتبطة بالإسلام والمسلمين التي أدانتها كبرى منظمات حقوق الإنسان العالمية وحتى الأمم المتحدة.
وفي الوقت ذاته يفر المسلمون من فرنسا بأعدادٍ أكبر، مما يؤدي إلى هجرة عقولٍ كبيرة تضر بـ”قوة فرنسا الناعمة”. ويعتقد غابون أنها خسارةٌ مؤسفة لأي دولة، حيث كان يمكنها الاستفادة بأصواتهم ووجهات نظرهم في العديد من مجالات العلاقات الدولية، والأعمال، والدبلوماسية.
انقسامات كتلة اليسار الحادة تصب أيضاً في صالح اليمين المتطرف الفرنسي
خلال الجولة الأولى من الانتخابات الفرنسية، حلَّ جان لوك ميلنشون، مرشح أقصى اليسار، في المركز الثالث بعد ماكرون ولوبان بنحو 22% من الأصوات، وبفارق ضئيل عن لوبان. ولم تجد دعوات توحيد جبهة اليسار خلال الدورة الأولى ودعم مرشح واحد سبيلاً للتحقق، الأمر الذي يرى مراقبون أنه فوت على تلك الأحزاب فرصة المنافسة على الرئاسة وفسح المجال أمام صعود اليمين المتطرف.
ويقول تقرير لوكالة الأنباء الفرنسية، إنه بعدما كان يمكن التحدث عن جبهة يسارية منسجمة في انتخابات 2017 وأخرى موحدة عام 2012، جمعت الحزب الشيوعي وحزب “فرنسا الأبية” بزعامة جان لوك ميلنشون، وعدداً من الأحزاب السياسية اليسارية الصغرى، أدت الخلافات الداخلية في 2022 بين أحزاب اليسار إلى تفكك مكونات هذا التيار وإحداث شرخ كبير في صفوفه، مما أثر سلباً على نتائجه الانتخابية وحال دون تمثيله في الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية الفرنسية.
وأدت إشكالية انعدام الثقة بين مكونات اليسار إلى استقواء اليمين المتطرف وفسح المجال أمامه في شخص مارين لوبان مرشحة حزب “التجمع الوطني” لمنافسة إيمانويل ماكرون في الدور الثاني؛ إذ لم تجد دعوات زعماء اليسار لتشكيل جبهة موحدة ودخول المنافسة الانتخابية بمرشح رئاسي مشترك سبيلاً للتحقق.
ولأول مرة في تاريخ فرنسا يحصل ممثلو أحزاب اليمين المتطرف مجتمعين على نسبة 30% من أصوات الناخبين في الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية، ويرجع مراقبون أسباب هذه النتائج بالأساس، إلى تفرق أصوات ناخبي أحزاب اليسار نظرا لتعدد ممثلي هذا التيار، وغياب انسجام مكوناته، وعدم اتفاقها على تشكيل جبهة موحدة.
باستثناء مرشح حزب “فرنسا الأبية” جان لوك ميلنشون الذي حصل على 21,9 بالمئة من الأصوات، عكست النتائج التي حصل عليها باقي ممثلي الأحزاب اليسارية تراجعاً تاريخياً، إذ نالت مرشحة الحزب الاشتراكي آن هيدالغو أقل من 1,8 بالمئة من الأصوات، خلافاً لمرشح نفس الحزب في انتخابات سنة 2017 بونوا هامون، الذي حصل على نحو 6 بالمئة من الأصوات. وحصل الحزب الشيوعي بقيادة فابيان روسيل على نسبة 2,31 بالمئة من الأصوات، في حين نال حزب الخضر بقيادة يانيك جادو 4,5 بالمئة.
ووفق عدد من المتابعين للشأن السياسي الفرنسي، فقد كان من الممكن لهذه الكتلة من الأصوات مجتمعة، التي تعدت 3,5 مليون صوت، أن تقلص فارق 420 ألف صوت الذي تقدمت به لوبان عن ميلنشون، بل وأن تضعه في صدارة المتأهلين بأكثر من 11 مليون صوت.
يرى المحلل السياسي مجيد بودن أن السبب الأساسي المفسر لتشرذم اليسار الفرنسي يكمن في وجوده السياسي، بغض النظر عن السياق الانتخابي الظرفي، والذي لو تم تداركه لضاعف حظوظ ميلنشون في بلوغ الدور الثاني من الاستحقاقات الرئاسية وقطع الطريق أمام اليمين المتطرف.
ونبه بودن في حديثه لوكالة فرانس 24 إلى الأسباب التاريخية التي أدت إلى إضعاف اليسار فكرياً وسياسياً، فذكر أنه بعدما كان يشكل الخزان الفكري والثقافي للمجتمع الفرنسي، تقلص دوره التأطيري عقب بلوغه السلطة وممارسة الحكم، ليتحول من منتج للثقافة والمعرفة، إلى جسم متهالك غارق في صراعات داخلية عقيمة.
من جهة أخرى، يعتقد مراقبون أن مكونات اليسار لم تستطِع أن تقدم نفسها بديلاً لليمين حين تسلمت مقاليد السلطة، إذ كانت غير قادرة على منح أفق فكري لممارسة الحكم، الأمر الذي جعل العديد من مثقفيها يولي أولوية للمناصب وانهمك في ممارسة السلطة، وبالتالي انتفى وجه التمايز الفكري والسياسي بينه وبين باقي الفرقاء السياسيين.
في هذا السياق، يعتبر الكاتب والمفكر الفرنسي آلان غريش أن أحزاب اليسار في فرنسا فقدت جزءاً من كتلتها الناخبة، بسبب تماهي برامجها الانتخابية مع توجهات اليمين المتطرف حول قضايا محورية، مثل الهجرة والأمن والإسلاموفوبيا، الأمر الذي ينفي تميز برنامجها الانتخابي ويخالف تماماً الأسس الفكرية التي قامت عليها.
أخيراً، تظهر نتائج الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية الفرنسية أن الحاضنة الشعبية لليمين المتطرف الفرنسي تكبر عاماً بعد عام، لكنها تبقى أضعف من منح التيار الكلمة العليا في هذه الانتخابات، وعلى الرغم من أن الأفكار القديمة التي يتبناها التيار تعود في الحقيقة لزمن الجمهورية الرابعة فإنه استطاع جذب أنصار جدد نحو صفه، خصوصاً تلك التي يتبناها إيريك زمور المرشح الأكثر تطرفاً، القائمة بالأساس على ملفَّي الهجرة والإسلام باعتبارهما المحرك الأبرز للجدل الانتخابي والموضوع المحوري لهذه الرئاسيات.
حيث يروج أنصار اليمين المتطرف الفرنسي لفكرة “الاستبدال الكبير” (Le grand remplacement) كمصطلح مقتبس من السياسي والكاتب “رينو كامو” الذي أسس له في كتاب له سنة 2010 لأجل التدليل على خطر المهاجرين العرب والمسلمين كتهديد ديموغرافي وحضاري وديني للوجود المعنوي للأمة الفرنسية، داعين إلى خطة صفر مهاجر من خلال فرض قيود واسعة على التأشيرات والممتلكات ومحاصرة “الإسلاموية الانفصالية” بتحييد المساجد والجمعيات الإسلامية والممارسات الدينية والشعائرية للمسلمين، بالإضافة إلى حظر تعليم اللغة العربية وحصرها في المؤسسات التعليمية الحكومية.