كتب حبيب معلوف في “الأخبار”:
لم يعد جائزاً على المستويين العالمي والمحلي عدم ربط تأمين المياه العذبة بمعالجة مياه الصرف. لا من ناحية تأمين السلامة العامة ولا من ناحية تسعير الخدمة وتحديد كلفة المعالجة. ومن يراجع تاريخية تطوّر أساليب معالجة الفضلات البشرية، يعرف أن تطوّر أشكال المراحيض وتوسّع استخدامها، لم يكونا بحد ذاتيهما دليلاً على التقدّم الحضاري، ولا حتى بمثابة مؤشر إلى التقدم في حماية الصحة العامة وصحة البيئة. فقد تنجح المنازل في التخلص من فضلاتها دون رائحة تُذكر، لكن المشكلة الأخطر قد تستمر في الوديان والأنهار والبحار… أو في الشبكات والمحطات!
كما لا تزال طريقة التخلص من الفضلات في المنزل مدار جدل، خصوصاً لناحية حجم استهلاك المياه العذبة وكلفة معالجة مياه الصرف. ولذلك يتم اليوم وصف طريقة تخفيض حجم المياه المستخدمة في المرحاض من عشر ليترات إلى ليتر واحد، بالخطوة المتقدمة جداً في توفير المياه العذبة وخفض كمية معالجة مياه الصرف وكلفتها.
هناك الكثير من الدراسات التي تتناول سبل تطوير معالجة مياه الصرف، منها البحث عن إمكانية استخدام طاقة الهواء بدل المياه في المراحيض، أو مع القليل منها، كما هي الحال في الطائرات، أو البحث في إمكانية إعادة استخدام الفضلات، ولا سيما البول، في استخدامات أخرى من أجل الطاقة أو الأسمدة أو إنتاج النيتروجين، بالتوازي أو بالتزامن مع استخدام جيل جديد من المراحيض تحفظ البول والفضلات بدل أن تتخلص منها. ويعتقد العلماء أن البول على سبيل المثال، مادة غنية بعناصر غذائية يمكن الاستعانة بها في تسميد المحاصيل، أو توظيفها في العمليات الصناعية، بدلاً من ضخّها في الأنهر والبحار والمسطحات المائية التي تتسبب بتلوّثها. وتتوقع دراسة نُشرت في مجلة “طبيعة” الشهر الماضي بأن كمية البول التي ينتجها البشر تكفي لتحلّ محل حوالي ربع كمية الأسمدة النيتروجينية والفوسفورية المستخدمة حول العالم حالياً! بالإضافة إلى احتواء البول على البوتاسيوم والعديد من المغذّيات الدقيقة. لذلك تنشط الكثير من الدراسات والأبحاث والتجارب اليوم لتغيير نموذج المراحيض لكي تساهم في جمع البول وإعادة استخدامه بدل صرفه أو شطفه وتوفير كميات هائلة من المياه، وتخفيف الضغط الواقع على أنظمة الصرف الصحي القديمة والمتهالكة بفعل الاستخدام الزائد وكلفة المعالجة.
لطالما استعانت المجتمعات القديمة بالبول لتسميد المحاصيل، ودباغة الجلود، وغسيل الملابس، وإنتاج البارود وبعض الأدوية، إلخ. الآن تحدث تطوّرات كثيرة في طرق التفكير والتقييم حول العالم لحل مثل هذه المشكلات من خلفيات جديدة قوامها اعتماد مبدأ الاستدامة والاقتصاد الدائري كمبادئ ذات أولوية في الاستراتيجيات التي تعتمدها الدول. فإذا كان في البول معادن ثمينة يمكن الاستفادة منها من أجل إنتاج مواد أخرى ذات أهمية وفائدة أخرى، فإن ذلك قد يدفع عاجلاً أم آجلاً إلى إعادة التفكير والتقييم والتغيير في المقاربات والتقنيات والنفسيات. أول ما يجب أن يتغير، هو التوقف عن استخدام ما يسمى “مياه الصرف”. فإذا كان هناك مواد ومعادن مهمة في البول، يفترض جمعها وحفظها بدل صرفها! وتغيير تقنية التخلص بتقنية الحفظ، وتغيير نفسية “القريفة” والرفض بنفسية التقبّل وإعادة الاستخدام، مع ما لهذا التغيير (في النفسية) من أهمية اقتصادية وصحية لا تُقدر بثمن في زمن الانهيارات وما بعده. فإذا كان أهمّ وأخطر سبب لتلوث المياه العذبة هو مياه الصرف، وأن كلفة معالجة المياه العادمة، بحسب التقنيات المسيطرة حالياً التي تعتمد تجميع مياه الصرف عبر شبكات موصولة بمحطات معالجة، هي ثلاثة أضعاف كلفة تأمين مياه الشرب… فإن ذلك يعتبر سبباً أكثر من كافٍ لتغيير الاستراتيجيات والنفسيات معاً.
ليس مطلوباً في بلد مثل لبنان، ينعم بنظام إيكولوجي وافر ومتجدّد تغيير النفسيات لدرجة تقبّل معالجة مياه الصرف وتحويلها إلى مياه شرب بكلفة عالية، بل حماية مياه الشرب الوفير من التلوّث كأولوية على زيادة الكميات أو سدّ النقص الوهمي الذي روّج له تجّار المياه الذين وضعوا يدهم بشكل غير دستوري على هذا المورد الحيوي والهامّ.
يفرض احترام مبدأ الاستدامة أيضاً إعادة النظر في طريقة تقييم التقنيات وخصوصاً موضوع تحويل البول وتدويره والاستفادة منه بنواحٍ متعددة، مثل توفير المواد الأولية من مياه عذبة ومعادن والتخفيف من تأثيراته على قضية تغيّر المناخ وفي توفير استهلاك الطاقة.
قبل الانهيار الذي حصل في لبنان كان أكثر من 80% من مياه الصرف (المقدّرة بـ310 ملايين م3/سنة)غير معالجة. ومن المتوقع بعد الانهيار أن يتراجع الوضع أكثر وأكثر لناحية الاهتمام بمعالجة هكذا أنواع من القضايا المُخفاة (مقارنة مع النفايات الصلبة الظاهرة) مع أنها أكثر خطورة من النواحي كافة كما أسلفنا! ليس هذا وحسب، فإن الحروب شبه العالمية التي تقع في الساحة الأوكرانية وزيادات موازنات التسلّح عند الدول المعنية، ستكون على حساب قضايا البيئة والتنمية حتماً، تتراجع معها كلّ المساعدات والبرامج الدولية لمعالجة مياه الصرف ضمنها. مع العلم، أن ما يقارب ثلاثة مليارات نسمة حول العالم لا يزالون من دون شبكات لمعالجة مياه الصرف حسب دراسات منظمة الصحة العالمية واليونيسف عام 2017، مع توقع أن تزداد الأمور تدهوراً وحصول زيادات أكبر في الأمراض والوفيات من جراء تلوّث المياه وعدم معالجة مياه الصرف في مرحلة ما بعد الحروب الأخيرة والتدهور الاقتصادي المستمر.
انطلاقاً من ذلك، على لبنان تغيير استراتيجيته لإدارة المياه (2010) ومراجعة المسوّدة النهائية لاستراتيجة (2020) خصوصاً لناحية إعادة تعريف ما يسمى “مياه الصرف” وعدم الاكتفاء بتعديلات التعرفة وإدخال رسوم إضافية فقط كما هو مقترح، وتوسيع مروحة المعالجات لهذه القضية عبر اعتماد أنظمة التخفيف من استهلاك المياه في الاستخدامات كافة أولاً، وضبط الهدر في الشبكات والبحث عن طرق جديدة في المعالجة تحترم مبادئ الاستدامة والحفظ بدل الإفراط في الاستهلاك، والتواضع بدل “شوفة الحال” الفارغة والكاذبة التي تسبّبت بمشكلات كبيرة كان يمكن الاستغناء عنها أو تحاشيها.