كتب طوني عيسى في “الجمهورية”:
لم تعد هناك شكوك في الاتجاه الذي سيسلكه الوضع في الأشهر المقبلة، بعد 15 أيار: أزمة مفتوحة حتى إشعار آخر، وفي عبارة أوضح، حتى إنجاز التسوية الجديدة.
لا مفاجآت منتظرة في نتائج الانتخابات النيابية. فالغالبية الحالية ستَحكم البلد 4 سنوات مقبلة. لكن الانتخابات ستُفرز هيكلية مختلفة للقوى التي يتألف منها المجلس. ففي الساحة السنّية، سيُعاد خلط الأوراق بتأثير من الموقف المربك الذي تسبَّب به الرئيس سعد الحريري. وفي الساحة المسيحية، سيستفيد العديد من القوى الحزبية والمستقلة وقوى المجتمع المدني من تراجع رصيد «التيار الوطني الحرّ».
وبديهي أن تعيد هذه الغالبية انتخاب الرئيس نبيه بري على رأس السلطة التشريعية، فيكون أول أركان الحكم الذين سيديرون المرحلة المقبلة ويتحكّمون بالاستحقاقات الآتية، ولاسيما تشكيل الحكومة الجديدة وإجراء انتخابات رئاسية قبل 31 تشرين الأول.
وعلى هذا الأساس، سيكون بري هو الأقوى بين أركان الحكم، على الأقل حتى انطلاق العهد الرئاسي الجديد. وهذا الأمر يستنفر القوى السياسية والطائفية جميعاً، ولاسيما الشريكين الآخرين في الحكم: الرئيس ميشال عون والرئيس نجيب ميقاتي. فكل منهما يسعى إلى ضمان حضوره، ويريد من الانتخابات النيابية أن تشكِّل جسر عبور له إلى هذه المرحلة التأسيسية.
بالنسبة إلى «التيار الوطني الحرّ»، الانتخابات النيابية مصيرية على مستويين: أولاً ضمان فوز النائب جبران باسيل بمقعده النيابي مجدداً، وبشكل مريح. وثانياً حصوله على الكتلة النيابية الأكبر مسيحياً، ما يترجم امتلاكه الرصيد الشعبي المسيحي الذي يؤهّله المطالبة بالرئاسة خلفاً لعون. ولـ»حزب الله» تأثيره في تظهير قوة باسيل و»التيار» في عدد من الدوائر، مباشرة أو من خلال الحلفاء.
ويتردَّد الكثير عن خيارات «الحزب» في ملف رئاسة الجمهورية بين باسيل ورئيس تيار «المردة» سليمان فرنجية. وتوحي مصادر كل من الرجلين بأنّه هو «المدعوم». فباسيل يقول إنّ التغطية المسيحية الأوسع يوفّرها «الوطني الحرّ» لا «المردة»، فيما تعتقد أوساط فرنجية أنّه الأَولى بثقة «الحزب» منذ سنوات طويلة، وأنّ الأوان قد حان لوصوله إلى بعبدا، بعد عون.
ويعتقد كثيرون أنّ حظوظ فرنجية باتت أقوى، هذه المرّة، لأنّه أصبح مقبولاً أكثر من باسيل محلياً وعربياً ودولياً. وفي طليعة الداعمين له بري وميقاتي. وأما «حزب الله»، فعلى الأرجح سيوازن بين حليفيه المارونيين ويتّخذ القرار بناءً على ما تقتضيه اللحظة السياسية. ولكن، في أي حال، لن يكون اختيار الرئيس مسألة سهلة وسريعة.
وثمة مَن يتوقع دخول البلد في فترة من الشغور الرئاسي تدوم حتى نضوج التسوية المتكاملة. وفي هذه المرحلة التحضيرية، سيكون ميقاتي لاعباً أساسياً على رأس الحكومة، ولو كانت في صيغة تصريف الأعمال.
فهذه الحكومة ستتولّى صلاحيات رئاسة الجمهورية، بالوكالة، بعد انتهاء ولاية عون. وفي عبارة أكثر وضوحاً، سيقوم ميقاتي وحكومته بتصريف أعمال السلطة التنفيذية بكاملها، أي الحكومة ورئاسة الجمهورية. وستكون الورقة الأبرز في يديه هي خطة التعافي والاتفاق مع صندوق النقد الدولي، ولكن أيضاً ستكون حكومته هي التي تحضِّر للمؤتمر الدولي- التأسيسي المرتقب.
إذا نجح ميقاتي في تحقيق هذا الهدف، فسيكرّس رصيده في واجهة الزعامة السنّية. ففي التكتيك السياسي، ساهمت الظروف في إظهار تفوُّقه على الرئيس سعد الحريري، على رغم الرصيد الكبير الذي وصل إليه بالوراثة.
وفيما أحرق الحريري مراكبه مع الكثيرين وغاب عن المسرح قبل الانتخابات، استطاع ميقاتي أن يحظى بدعم الفرنسيين ورضى الأميركيين، من دون أن يزعج طهران، ودشَّن المصالحة مع السعوديين. وفوق ذلك، ربط لبنان باتفاق أوَّلي مع صندوق النقد، ما يجعل بقاءه في رئاسة الحكومة حاجة ملحّة للخروج من الأزمة.
وفي طرابلس، بين دعوات المفتي عبد اللطيف دريان إلى المشاركة الكثيفة وعدم الاقتراع لـ»الفاسدين» ودعوات الحريري إلى المقاطعة، يفضَّل ميقاتي تمرير معركة الانتخابات النيابية «وسطياً» و»بالتي هي أحسن». فهو لا يريد أي اشتباك بينه وبين أي كان، ولاسيما «حزب الله»، تجنّباً لأي نفور يعوق تولّيه رئاسة الحكومة لفترة مقبلة، سواء من باب الحكومة الفاعلة أو من باب تصريف الأعمال.
وهكذا، بعد انتهاء ولاية المجلس النيابي في 21 أيار، ستدخل حكومة ميقاتي وضعية تصريف الأعمال، لكنها ستبقى واقعياً إلى أجَل غير مسمّى. وعلى الأرجح، ستواكب مرحلة عاصفة جداً من الاشتباكات السياسية والانهيارات النقدية والمالية والانفجارات الاجتماعية، وسيحرص العديد من القوى الخارجية على الحدِّ منها منعاً لانفراط الدولة والكيان.