جاء في “المركزية”:
منذ بدء الحراك الشعبي في تشرين الأول 2019 الذي وضع للمرة الأولى الطبقة السياسية الحاكمة في لبنان تحت مجهر المساءلة والمحاسبة ، وعلى رغم خروج “الثوار” الحقيقيين من الشارع وتحول ما عُرِفَ ب”ثورة تشرين” إلى حفلات هرج ومرج ومطاردات وصولا إلى تقوقعها في إطار الشعارات، إلا أن الأنظار كانت موجهة نحو الإنتخابات النيابية الأولى التي ستجرى على وقع طبول “التغيير”. ولم يكن وقع جريمة تفجير مرفأ بيروت في 4 آب 2020 أقل تأثيراً على القوى السياسية والتيارات الحزبية نتيجة التحديات الكبيرة التي فرضها هذا الحدث الذي هز بيروت والعالم من دون ان يتحرك السياسيون عن كراسيهم.
على وقع هذين الحدثين التغييرين وما أعقبهما من انهيار لكافة السلطات في لبنان، انطلقت صفارة الإنتخابات بمزاج شعبي متمايز عكسته المرحلة الأولى منها في 6 أيار التي جرت في تسع دول عربية ومنها إيران . فهل تكشف صناديق اقتراع المغتربين عن رغبة التغيير الحقيقية وهل سيأتي عقاب المنظومة على صدى أصوات المغتربين والمنتشرين الذين دفعتهم سلطة الفساد إلى اختصار أحلامهم بحقيبة الهجرة؟
في لبنان حيث لا تزال الغالبية مرتهنة لزعيم أو بيك أو رئيس حزب لاعتبارات تبدأ بعملية غسل دماغ وصولا إلى المنفعة الشخصية، فإن احتمالات إحداث تغيير سياسي من خلال هذه الإنتخابات تبقى ضئيلة. إلا أن المزاج الإغترابي بات يحسب له كونه أكثر تحررا من كل هذه الرواسب والتبعيات وهذا ما أظهرته أصوات المغتربين في انتخابات المرحلة الأولى التي جرت في الأمس في تسع دول عربية ويتوقع أن يكون أكثر شمولية في انتخابات يوم غد الأحد والتي ستشمل 48 دولة من بينها الإمارات العربية المتحدة.
الرهان على الصوت الإغترابي في ترجمة النقمة على الطبقة السياسية التي أوصلت نسبة 50 في المئة من اللبنانيين إلى ما دون خط الفقر وحرمتهم من فرصة العيش قد يكون في مكانه. لكن ثمة تحديات عديدة تعترض احتمالات نجاح قوى التغيير في تأمين كتلة وازنة في المجلس النيابي بسبب تشتت مجموعات الثورة في أكثر من لائحة وتوزعها على المرشحين في 15 دائرة فضلا عن استماتة الطبقة السياسية الحاكمة في الإحتفاظ بمقاعدها النيابية وعدم التسليم بخسارة الأغلبية داخل البرلمان بأي شكل من الأشكال.
على وقع هذه الإعتبارات يتحضر اللبنانيون المنتشرون في دول أوروبا والقارة الأميركية وأستراليا والإمارات وأفريقيا للإقتراع غدا. وتفيد مصادر من دول الإنتشار “المركزية” أن مندوبي المنظمات المدنية ولوائح التغيير والثورة والمجتمع المدني والمستقلون تنشط في حراكها منذ إقفال صناديق الإقتراع في الدول العربية التسعة منتصف ليل أمس بعدما لمست أن حراك المغترب اللبناني متقدم على الأحزاب التقليدية ويستطيع أن يكون قوة تغييرية كونه متحرّرا من الضغوطات التي تمارس على الناخب اللبناني في الداخل. وتلفت أوساط الإستطلاعات إلى حماسة المقترعين لمرشحي المجتمع المدني لا سيما في دول أوروبا وأستراليا والولايات المتحدة التي شهدت كثافة في التسجيل. ومعلوم أن المغتربين في هذه البلدان واكبوا حراك 17 تشرين، كما شهدت هذه الدول عدداً كبيراً من التظاهرات، ما يدل على انتفاضة المغتربين على الواقع السياسي في لبنان، بينما في المقابل لم تشهد مثلاً دول أفريقيا تحركات داعمة أو مواكبة لحراك 17 تشرين، وهذا أيضاً له دلالاته الانتخابية.
مع ذلك، لا يمكن تجاهل دور الأحزاب والقوى اللبنانية التي تمتلك الخبرة والماكينات المحترفة إضافة الى الداتا والحضور على الأرض في دول الاغتراب، ما يجعلها ايضاً رقماً صعباً في الإنتخابات. وعلى رغم ارتفاع أعداد المغتربين المسجلين في هذه الدورة بحيث وصل إلى 225 ألفا بحسب بيانات وزارة الخارجية إلا أن أرقام المقترعين المتوقع أن تصل إلى 160 ألفا مقابل 50 ألفا في انتخابات 2018 تعتبر ضئيلة مقارنة مع وجود ملايين اللبنانيين المنتشرين في أنحاء العالم.
في انتخابات 2018، فاز مرشّحو المجتمع المدني بـ2370 صوتاً، من مجموع 46 ألفاً و799 مقترعاً، ونالت القوى التغييرية حوالى 2.6 في المئة من الأصوات مقابل نسبة عالية للأحزاب والشخصيات السياسية. في هذه الدورة تبدو إمكانية التغيير أكبر خصوصاً أنها مترافقة بجملة متغيّرات أهمّها الهجرة الحديثة التي من المتوقع أن تكون مشاركتها مرتفعة.
وفي حين تسعى القوى التقليدية لتحويل الاستحقاق الانتخابي إلى معركة وجود سياسية وطائفية ومناطقية وأيديولوجية، تعتمد معظم قوى “التغيير” على دعوة الناخبين بالخارج والداخل إلى التصويت ضد أحزاب السلطة الحاكمة التي “هجرتهم وأفقرتهم” وهي ولئن تعددت لوائحها الا ان فرص الخرق تبقى كبيرة خصوصا ان في كل دائرة ثمة لائحة واحدة لديها فرصة مقارعة الاحزاب وقادرة على تأمين حاصل وربما اكثر. فهل يكفي أن يكون التغيير مجرد شعار لإحداث خلل في توازن القوى داخل مجلس 2022 فيحصد المغتربون للمرة الثانية ثمار آمالهم ووجع غربتهم تخاذلا واستغلالا لمشاعرهم وأموالهم ام ان الفرصة هذه المرة حقيقية ومتاحة؟
قد تأتي الإجابات بعد 16 أيار خصوصا أن ظروف انتخابات 2022 استثنائية ومصيرية، وفي ضوء نتائجها سترسم موازين القوى في البرلمان المقبل.