كتب رضا صوايا في “الأخبار”:
كان من المتوقع أن تؤدي الهجرة الكثيفة للعمال الأجانب من لبنان، منذ بدء الانهيار المالي، إلى خلق فرصة للبنانيين لملء الفراغ الذي نتج في العديد من القطاعات. لكن تبيّن المعطيات أن الكثير من اللبنانيين لا يزالون يفضلون البطالة على العمل في مهن «لا تليق بهم» ولو كانوا لا يملكون أي شهادة جامعية أو مهارة حرفية.
ساهم النموذج الاقتصادي القائم على الريع والربح السريع والنفخ المصطنع للقدرة الشرائية للبنانيين في تعزيز احتقارهم التاريخي لبعض المهن، وحصر بعضها، ولو بعنصرية فاقعة، ببعض الجنسيات الأجنبية وحتى بمذاهب معيّنة للبنانيين آخرين. واقع، جعل معظم اللبنانيين يفضّلون البطالة، وحتى الهجرة، على محاولة «توسيخ» أيديهم في العمل في محطات المحروقات أو في قطاع النفايات أو في العتالة وغيرها الكثير من الوظائف التي أصبحت حكراً على بعض الجنسيات وساهمت على مدار عقود في استنزاف دولارات اللبنانيين، التي كان يحوّلها العمال الأجانب إلى بلادهم. هكذا بات اللبناني بلا دولارات وبلا وظيفة.
لا عمّال نفايات!
مطلع الشهر الفائت، انفجرت أزمة النفايات في الضاحية الجنوبية لبيروت مع توقف عمال شركة «سيتي بلو» عن العمل بسبب عدم تقاضيهم لرواتبهم. طوال الأيام التي شهدها الإضراب قامت بلديات الضاحية بمهام الشركة من كنس النفايات، ولمّها وجمعها ونقلها. مهمة دفعت بلدية برج البراجنة إلى «وضع إعلان عن حاجتنا لعمال في حال طالت الأزمة، لكن لم يتقدم للعمل إلا شخصان فقط وكلاهما لبنانيان» وفق نائب رئيس بلدية برج البراجنة زهير جلول الذي يتساءل باستغراب «نسمع يومياً عن حاجة الناس للعمل وحين لاحت فرصة لم يتقدّم أحد. كيف يعقل؟»
أكثر القطاعات التي تأثرت بهجرة العمالة الأجنبية من لبنان كان قطاع النفايات الذي بات يرتكز بأغلبيته على العمالة اللبنانيّة. لكن استقطاب اللبنانيين للعمل في هذا القطاع دونه الكثير من الصعوبات. كيف لا، وشركتا الكنس، «رامكو» و»سيتي بلو» تعلنان منذ أشهر عن حاجتهما إلى مئات العمال والموظفين من دون جدوى.
600 وظيفة شاغرة
يعلن المدير عام لشركة «رامكو»، وليد أبو سعد عن «الحاجة إلى 400 عامل بشكل فوري. لم نوفّر وسيلة لاستقطابهم من دون أي نتيجة تذكر». ويوضح أنه «ومنذ شهر حزيران 2020 لم يعد لدينا عمال أجانب في الشركة. عدد الموظفين في الشركة حالياً من عمال تنظيف وسائقين وإداريين يتراوح بين 700 و 800 شخص، 95% منهم لبنانيون. لكن المشكلة التي نواجهها هي في عدم ثبات العمال في الوظيفة رغم الخدمات التي يستفيدون منها. نوظف 100 وبعد مدة يغادر 80 ونضطر للبحث مجدداً عن عمال».
اللافت أن ما يتقاضاه عامل التنظيفات في الشركة يفوق ما يتقاضاه إداريون من حملة الشهادات الجامعية، فوفق أبو سعد «ندفع للعامل 100 ألف ليرة يومياً ما عدا بدل الوقت الإضافي. أي أن أجره الشهري يتراوح ما بين 4 إلى 5 ملايين ليرة شهرياً. وهذا الأجر الصافي الذي يتقاضاه، كون الشركة تؤمن للعمال الذين يرغبون بالسكن فيها المنامة والمأكل فيوفرون بالتالي كلفة النقل وغسيل الثياب. في المقابل فإن موظفة إدارية في الشركة كانت تعمل في القطاع المصرفي ومن حملة شهادة ماجستير تتقاضى 5 ملايين ليرة شهرياً، وتتحمل هي كلفة النقل وأكلها وشربها».
السيناريو نفسه يتكرّر مع شركة «سيتي بلو» التي يشير رئيس مجلس إدارتها ميلاد معوض إلى أن عدد موظفيها في مختلف القطاعات يبلغ حوالى 700 موظف «وما زلنا بحاجة إلى 200 موظف. الصعوبة التي نواجهها هي أن راتب العامل الأجنبي محدّد بالدولار، أما مع اللبناني فعليك أن تواكب غلاء المعيشة وكلفة النقل بشكل مستمرّ، وفي اللحظة التي لا تواكب فيها هذه التبدّلات تغادر أعداد كبيرة ونضطر للتوظيف مجدداً، علماً أننا نواكب غلاء المعيشة بشكل دوري». ويوضح أن «عامل النظافة يتقاضى يومياً حوالى 110 آلاف ليرة إضافة إلى المنامة والمأكل والملبس في حال رغب بالسكن في نطاق المؤسسة».
المشترك بين الشركتين أيضاً أن الأغلبية الكاسحة من العمال والذين يتقدّمون للعمل هم من الشمال وتحديداً من عكار وطرابلس ما يزيد من صعوبة استقطابهم بسبب كلفة النقل وبعد المسافة.
العتالة
قطاع الطاقة الشمسيّة الذي يلقى رواجاً منقطع النظير بات يجذب لبنانيين من ذوي الاختصاصات في مجال الكهرباء والحدادة بعدما كانت المنافسة السورية كبيرة سابقاً. لكن عناد اللبنانيين على العمل في المهام التي لا تتطلب مهارات محددة كحمل الألواح الشمسيّة والبطاريات والمساعدة في التركيب لا يزال بارزاً وبقوة بحسب مصادر عدة شركات عاملة في المجال «حيث لا يزال اللبناني يتجنّب هذه الأعمال والاتكال في الأغلب هو على السوريين». أما الأجر اليومي الذي يمكن أن يتقاضاه العامل فلا يقل عن «10 إلى 15 دولاراً يومياً. أي في حال عمل في 20 ورشة شهرياً فأجره لن يقل عن 7 ملايين ليرة. ومع هذا نجد صعوبة في إيجاد لبنانيين للعمل في المجال».
محطات المحروقات
أما في قطاع المحروقات، فيبدو أن اللبناني يفضل الوقوف في الطوابير أمام المحطات وجني الأرباح من المتاجرة بالمازوت والبنزين في السوق السوداء، على العمل في المحطات وجني راتب شهري مكفول. ووفقاً لعضو نقابة أصحاب محطات المحروقات جورج البراكس فإنه «من النادر أن تجد لبنانياً يرضى بالعمل في المحطات. حاولنا منذ ما قبل الأزمة أن نوظف لبنانيين لكننا لم نوفّق، وإذا حالفنا الحظ ووجدنا لبنانياً يرضى بالعمل في تعبئة البنزين فمن الصعب جداً أن تجد لبنانياً يقبل بالعمل في غسيل السيارات». وعن رواتب العمّال، يشرح البراكس أن «أجر العامل في المحطات يختلف بين محطة وأخرى بحسب مبيعاتها ودوام العمل، لكن في الإجمال فإن متوسط راتب العامل لا يقلّ عن 150 دولاراً شهرياً». يؤكد البراكس أنه «من الصعب أن نحدّد بدقة عدد العمال الأجانب في المحطات لكن يمكننا أن نستنتج أن عددهم يفوق الـ10 آلاف عامل إذا ما احتسبنا وجود 3500 محطة توظف كل واحدة نحو 3 عمال». أي أن هذا القطاع وحده يستنزف نحو 19 مليون دولار سنوياً تذهب إلى خارج لبنان، كان يمكن الحفاظ عليها لو ارتضى اللبناني العمل في المجال.
ساهم النموذج الاقتصادي القائم على الريع والربح السريع والنفخ المصطنع للقدرة الشرائية للبنانيين في تعزيز احتقارهم التاريخي لبعض المهن، وحصر بعضها، ولو بعنصرية فاقعة، ببعض الجنسيات الأجنبية وحتى بمذاهب معيّنة للبنانيين آخرين. واقع، جعل معظم اللبنانيين يفضّلون البطالة، وحتى الهجرة، على محاولة «توسيخ» أيديهم في العمل في محطات المحروقات أو في قطاع النفايات أو في العتالة وغيرها الكثير من الوظائف التي أصبحت حكراً على بعض الجنسيات وساهمت على مدار عقود في استنزاف دولارات اللبنانيين، التي كان يحوّلها العمال الأجانب إلى بلادهم. هكذا بات اللبناني بلا دولارات وبلا وظيفة.
لا عمّال نفايات!
مطلع الشهر الفائت، انفجرت أزمة النفايات في الضاحية الجنوبية لبيروت مع توقف عمال شركة «سيتي بلو» عن العمل بسبب عدم تقاضيهم لرواتبهم. طوال الأيام التي شهدها الإضراب قامت بلديات الضاحية بمهام الشركة من كنس النفايات، ولمّها وجمعها ونقلها. مهمة دفعت بلدية برج البراجنة إلى «وضع إعلان عن حاجتنا لعمال في حال طالت الأزمة، لكن لم يتقدم للعمل إلا شخصان فقط وكلاهما لبنانيان» وفق نائب رئيس بلدية برج البراجنة زهير جلول الذي يتساءل باستغراب «نسمع يومياً عن حاجة الناس للعمل وحين لاحت فرصة لم يتقدّم أحد. كيف يعقل؟»
أكثر القطاعات التي تأثرت بهجرة العمالة الأجنبية من لبنان كان قطاع النفايات الذي بات يرتكز بأغلبيته على العمالة اللبنانيّة. لكن استقطاب اللبنانيين للعمل في هذا القطاع دونه الكثير من الصعوبات. كيف لا، وشركتا الكنس، «رامكو» و»سيتي بلو» تعلنان منذ أشهر عن حاجتهما إلى مئات العمال والموظفين من دون جدوى.
600 وظيفة شاغرة
يعلن المدير عام لشركة «رامكو»، وليد أبو سعد عن «الحاجة إلى 400 عامل بشكل فوري. لم نوفّر وسيلة لاستقطابهم من دون أي نتيجة تذكر». ويوضح أنه «ومنذ شهر حزيران 2020 لم يعد لدينا عمال أجانب في الشركة. عدد الموظفين في الشركة حالياً من عمال تنظيف وسائقين وإداريين يتراوح بين 700 و 800 شخص، 95% منهم لبنانيون. لكن المشكلة التي نواجهها هي في عدم ثبات العمال في الوظيفة رغم الخدمات التي يستفيدون منها. نوظف 100 وبعد مدة يغادر 80 ونضطر للبحث مجدداً عن عمال».
اللافت أن ما يتقاضاه عامل التنظيفات في الشركة يفوق ما يتقاضاه إداريون من حملة الشهادات الجامعية، فوفق أبو سعد «ندفع للعامل 100 ألف ليرة يومياً ما عدا بدل الوقت الإضافي. أي أن أجره الشهري يتراوح ما بين 4 إلى 5 ملايين ليرة شهرياً. وهذا الأجر الصافي الذي يتقاضاه، كون الشركة تؤمن للعمال الذين يرغبون بالسكن فيها المنامة والمأكل فيوفرون بالتالي كلفة النقل وغسيل الثياب. في المقابل فإن موظفة إدارية في الشركة كانت تعمل في القطاع المصرفي ومن حملة شهادة ماجستير تتقاضى 5 ملايين ليرة شهرياً، وتتحمل هي كلفة النقل وأكلها وشربها».
السيناريو نفسه يتكرّر مع شركة «سيتي بلو» التي يشير رئيس مجلس إدارتها ميلاد معوض إلى أن عدد موظفيها في مختلف القطاعات يبلغ حوالى 700 موظف «وما زلنا بحاجة إلى 200 موظف. الصعوبة التي نواجهها هي أن راتب العامل الأجنبي محدّد بالدولار، أما مع اللبناني فعليك أن تواكب غلاء المعيشة وكلفة النقل بشكل مستمرّ، وفي اللحظة التي لا تواكب فيها هذه التبدّلات تغادر أعداد كبيرة ونضطر للتوظيف مجدداً، علماً أننا نواكب غلاء المعيشة بشكل دوري». ويوضح أن «عامل النظافة يتقاضى يومياً حوالى 110 آلاف ليرة إضافة إلى المنامة والمأكل والملبس في حال رغب بالسكن في نطاق المؤسسة».
المشترك بين الشركتين أيضاً أن الأغلبية الكاسحة من العمال والذين يتقدّمون للعمل هم من الشمال وتحديداً من عكار وطرابلس ما يزيد من صعوبة استقطابهم بسبب كلفة النقل وبعد المسافة.
العتالة
قطاع الطاقة الشمسيّة الذي يلقى رواجاً منقطع النظير بات يجذب لبنانيين من ذوي الاختصاصات في مجال الكهرباء والحدادة بعدما كانت المنافسة السورية كبيرة سابقاً. لكن عناد اللبنانيين على العمل في المهام التي لا تتطلب مهارات محددة كحمل الألواح الشمسيّة والبطاريات والمساعدة في التركيب لا يزال بارزاً وبقوة بحسب مصادر عدة شركات عاملة في المجال «حيث لا يزال اللبناني يتجنّب هذه الأعمال والاتكال في الأغلب هو على السوريين». أما الأجر اليومي الذي يمكن أن يتقاضاه العامل فلا يقل عن «10 إلى 15 دولاراً يومياً. أي في حال عمل في 20 ورشة شهرياً فأجره لن يقل عن 7 ملايين ليرة. ومع هذا نجد صعوبة في إيجاد لبنانيين للعمل في المجال».
محطات المحروقات
أما في قطاع المحروقات، فيبدو أن اللبناني يفضل الوقوف في الطوابير أمام المحطات وجني الأرباح من المتاجرة بالمازوت والبنزين في السوق السوداء، على العمل في المحطات وجني راتب شهري مكفول. ووفقاً لعضو نقابة أصحاب محطات المحروقات جورج البراكس فإنه «من النادر أن تجد لبنانياً يرضى بالعمل في المحطات. حاولنا منذ ما قبل الأزمة أن نوظف لبنانيين لكننا لم نوفّق، وإذا حالفنا الحظ ووجدنا لبنانياً يرضى بالعمل في تعبئة البنزين فمن الصعب جداً أن تجد لبنانياً يقبل بالعمل في غسيل السيارات». وعن رواتب العمّال، يشرح البراكس أن «أجر العامل في المحطات يختلف بين محطة وأخرى بحسب مبيعاتها ودوام العمل، لكن في الإجمال فإن متوسط راتب العامل لا يقلّ عن 150 دولاراً شهرياً». يؤكد البراكس أنه «من الصعب أن نحدّد بدقة عدد العمال الأجانب في المحطات لكن يمكننا أن نستنتج أن عددهم يفوق الـ10 آلاف عامل إذا ما احتسبنا وجود 3500 محطة توظف كل واحدة نحو 3 عمال». أي أن هذا القطاع وحده يستنزف نحو 19 مليون دولار سنوياً تذهب إلى خارج لبنان، كان يمكن الحفاظ عليها لو ارتضى اللبناني العمل في المجال.