كتب فؤاد بزي في “الأخبار”:
لا يمكن الحديث عن حاجات سوق العمل في لبنان من دون التوقّف عند الدور الذي يفترض بالتعليم المهني أن يضطلع به. هذا القطاع المهمّش اجتماعياً وأكاديمياً، يمكنه إذا حظي بالاهتمام الكافي أن يخرّج شباناً قادرين على ملء شواغر يحتاجها سوق العمل عوض استمراره في تخريج حاملي شهادات مماثلة للشهادات الجامعية
قد لا تكون الصورة النمطية المتداولة في لبنان عن التعليم المهني موجودة في أيّ مكان آخر من العالم، إذ يُعتبر كلّ طالب توجه نحو المهنيات في لبنان فاشلاً أكاديمياً، لا يمكنه أن يستكمل المسار المرسوم له من قبل العائلة بأن يكون طبيباً أو مهندساً وبدرجةٍ أقل صيدلانياً أو محامياً. هذه الاختصاصات هي الدليل على ذكاء الطالب ونباهته، أما التوجهات المهنية التطبيقية فهي لمن رسب في المدرسة مرّة تلو الأخرى قبل أن يقتنع المحيطون به بأنّه صاحب توجّه مهني أو ذكاء عملي تطبيقي لا نظري.
هذا التصنيف “الاجتماعي” ينعكس على قطاع التعليم المهني، الذي يُعدّ الأكثر عرضة للتهميش عن غيره من القطاعات التعليمية، خصوصاً أنه على ارتباط مباشر بالصناعة والزراعة كما الخدمات، ما يعني أنّه يتعلّق بشكل عضوي بالدورة الإنتاجية في البلاد، وهي مفقودة في لبنان بشكل شبه تام. الجامعات معنيّة كذلك بالإنتاج، ولكن على المستوى الإشرافي الأعلى ولا دخل لها بإعداد الكادر الفنّي الماهر. فهي تقوم بتدريس طلابنا العلوم الأساسية المطلوبة للعمل في الخارج ليتمكّنوا من الهجرة والإنتاج لإرسال أموالهم إلى لبنان، وهنا تبدأ الخسارة مع إفراغ القطاعات المنتجة من رأس مالها البشري.
دور المهنيات الضائع
لكن المسؤولية لا تقع فقط على عاتق التصنيف الاجتماعي لقطاعات التعليم، ودور الدولة في رعاية هذا القطاع فحسب، إذ يتحمّل القطاع نفسه مسؤولية عدم مواكبة اختصاصاته لما تتطلّبه سوق العمل، بل تكرّر في غالبيتها اختصاصات جامعية مثل العلوم المخبرية، والعناية التمريضية، والتربية الحضانية وغيرها، ما يهدّد بجعل خرّيجي هذه الاختصاصات عاطلين من العمل، أو عاملين في غير اختصاصاتهم التي بذلوا فيها جهدهم ومالهم، أو مستغَلّين برواتب مجحفة مثل فاطمة خريجة التربية الحضانية التي تعمل بتسعماية ألف ليرة شهرياً اليوم… بعد زيادة مئة ألف ليرة مطلع هذه السّنة.
ويمكن القول إنه حتى اليوم لا توجد رؤية حقيقية لحاجة السّوق التي يمكن تشخيصها عبر مؤتمرات مشتركة بين وزارة العمل والصناعيين ووزارة التربية المعنيّة بالتعليم المهني، لبناء اختصاصات متحرّكة يمكن أن تكون متاحة للجميع وحتى لمن هم حالياً منخرطين في سوق العمل عبر دورات صغيرة تُعيد صقل تجاربهم وتطلعهم على كلّ جديد. ويمكن الاستدلال على ذلك من خلال قيام عدد من الجامعات بإنشاء اختصاصات متعلّقة بالنفط، على أساس أنّنا قاب قوسين أو أدنى من الوصول إلى استخراج الذهب الأسود والإنتاج، في حين يمكن وصف الأمر بمضيعة الوقت والمال وكان يمكن الاستعاضة عنها بقيام المهنيات بتأهيل العمّال الفنّيين الموجودين حالياً، فالحفر لا يحتاج لجيوش من المهندسين الجامعيين، بل لعمّال حفر وحدادين ومشغلّي آلات هيدروليكية ومختصين جيولوجيّين وكيميائيين. الأفكار كثيرة وقد يستغرب البعض وجود مجالات عمل كبيرة للمهنيين في لبنان لا تخطر على البال مثل صيانة الأجهزة المكتبية أو مختصين في الخوادم server والشبكات الصغيرة لكن الرؤية والتطبيق غائبان.
بين المهنية وسوق العمل
الفوضى، لا يمكن التعبير إلّا بهذه الكلمة عن العلاقة بين سوق العمل والمهنيات التي لم تواكب أي تطوّر تكنولوجي بحسب مدير المركز الإسلامي للتوجيه علي زلزلي، وهو يرى أنّ المهنيات في لبنان «تقوم بإدخال اختصاصات شبيهة بتلك الجامعية ما يُعيدها إلى مربّع التعليم النظري لا العملي. فاختصاص المحاسبة الذي يدرّس في المهنيات يشبه إلى حدّ كبير الاختصاص الجامعي وعليه يكون السؤال: هل يختار أصحاب الشركات خرّيجي المهنيات أم الجامعات؟ بالطبع الخيار سيقع على الجامعيين بسبب سيطرة فكرة تفوّقهم على المهنيين، بالتالي يرى زلزلي أنه على المهنيات التوجه نحو التخصّص في الاختصاصات فنجعل المحاسب مختصاً في نظام محاسبي معيّن، وهذا الأمر يجب أن ينسحب على بقية الاختصاصات. ويُضيف بأن غياب التجديد على مستوى البرامج يزيد من اتساع الهوة بين السوق والمهنية. على سبيل المثال لا يوجد اختصاص كهرباء سيارات يعلّم كيفية التعامل مع التكنولوجيات الحديثة فيها اليوم، بل هناك ما يُعرف منذ عشرات السّنين بميكانيك السّيارات في حين أنّ كلّ المنتجات الحديثة تحتوي على ألواح إلكترونية معقّدة.
أعداد الطلاب المهنيّين مركزة في الاختصاصات الموجودة في الجامعات
بالإضافة لما سبق، يؤكد زلزلي أنّ هناك غياب شبه تام للتوجيه بناءً على ميول الطالب وقدراته، فلا زالت المهنيات بعيدة عن التدريب العملي على الأرض، فيما تتوجّه الأعداد الكبيرة من الطلاب نحو بعض المهنيات الخاصة حيث نسب النجاح عالية جداً بشكل غير مفهوم ما يؤكّد الاستنتاج بأن التسجيل في الاختصاص المهني يخضع للأهواء وليس للحاجات والقدرات.
تقارير المركز التربوي لو قُرأت
يقوم المركز التربوي بتقديم نشرات إحصائية سنوية عن العام الدراسي تلخّص أعداد الطلاب في مختلف القطاعات التعليمية ومنها التعليم المهني. ولو عدنا إلى أحدثها، مثل تقرير العام الدراسي 2019-2020، سنجد أنّ أعداد الطلاب مركزة في الاختصاصات المشابهة لتلك الموجودة في الجامعات مثل إدارة الأعمال، العلوم المخبرية، المعلوماتية الإدارية، العناية التمريضية التي وصل عدد الطلاب فيها إلى3851 بينما هناك فراغ في اختصاصات هي محل حاجة لسوق العمل اليوم مثل الطاقة المتجدّدة (27 طالباً)، ميكانيك الهيدروليك (12 طالباً)، الشبكات المعلوماتية (24 طالباً) بالإضافة لغياب كلّي لأي اختصاص يحاكي الإنتاج الزراعي.
كما أن هناك طلاب يدرسون اليوم اختصاصات أصبحت خارج أسواق العمل بسبب التطوّر التكنولوجي أو تغيّر التقنيات المستخدمة مثل مصلح التلفزيونات الذي لا يزال يتعلّم كيفية صيانة الأجهزة القديمة التي خرجت من الخدمة. وهنا يُشير مارون، صاحب محل صيانة أجهزة خليوية في عين الرمانة ترك المدرسة باكراً بسبب حبّه للعمل اليدوي، أنّه لم يجد في اختصاصه المهني في «البرمجة المعلوماتية» أي تطبيق على أرض الواقع، «علمونا برمجة ويندوز 2000 وأوفيس 97 سنة 2018» فعاد للالتحاق بدورات قصيرة تجريها الجمعيات كي يتعلّم صيانة الأجهزة الحديثة وبرمجتها بالإضافة لأستاذه الخاص… «اليوتيوب» كما يسميه.
المطلوب اليوم رؤية وطنية شاملة لقطاع التعليم المهني وإعادة بثّ الروح فيه ووضع برنامج عمل له يحاكي الحاجات الحقيقية للسّوق اللبناني، فتُقفل اختصاصات وتفتح أخرى، وتُواكَب بتشريعات تحمي خرّيجي المهنيات وتعطيهم الدور الأساس، بالإضافة إلى إعادة بثّ الحياة في فكرة التدريب المهني المستمرّ الذي يقوم على فكرة الدورات القصيرة لكلّ المهنيين الموجودين في سوق العمل لمواكبة كلّ تطوّر وتغيير.