كتب نقولا ناصيف في “الأخبار”:
بإعلان النتائج النهائية، أمس، باتت الانتخابات النيابية من الماضي. المتوقع إغراق المجلس الدستوري في الأيام المقبلة بكمّ غير محسوب من الطعون، لن يسعها أن تبدّل من هويّة البرلمان المنتخب الذي لا يشبه أيّاً من المجالس الستّة التي سبقته منذ ما بعد اتفاق الطائف، إلا أنه على صورة الاضطراب الذي تعيشه البلاد، وقد يكون جزءاً منه.
على مرّ عقدين من الزمن، جرّب لبنان حقبتين من توالي البرلمانات: أولى بدأت عام 1992، وثانية عام 2005. كلتاهما نجمتا عن انهيار موازين القوى في الشارع، وعزيت الى أحداث أمنية، توالت في ظلّها مجالس نيابية عكست هذا التحوّل وساهمت في انصياعها له، فإذا لكل من الحقبتين مرجعية تديرها حافظت على انضباطها وإلزامها الطاعة. في برلمان 1992 وما تلاه، اضطلع السوريون بدور المرجعية، وفي برلمان 2005 اضطلعت الثنائية السنّية – الشيعية بدور مماثل لتفادي استعار النعرات المذهبية، والمحافظة على الطبقة السياسية الحاكمة نفسها المنخرطة فيها. على صورة برلمان 1992، لم يكن وجود أكثرية وأقلية – وكانتا موجودتين – ذا مغزى بسبب المرجعية الآمرة لدمشق. كذلك في مجلس 2005 فقدت الأكثرية والأقلية أيّ معنى لهما بدعوى التوافق السنّي – الشيعي. بذلك بدت تجربتا 1992 و2005 وما تلا كلاً منهما، سلسلة واحدة متراصّة رافقت الطبقة السياسية الحاكمة نفسها منذ عام 1992، تحكم قبضتها على اللعبة السياسية الداخلية، وتفرض انضباطها وطاعتها ومسارها.
في ظل البرلمان المنتخب، لا يسري هذا القياس لأسباب شتى:
1 – بخروج الرئيس سعد الحريري من الحياة السياسية، وتياره من البرلمان للمرة الأولى منذ عام 1996، فكّك أولى حلقات التوازن الذي أرسته الثنائية السنّية – الشيعية عام 2005 وأضحى أكثر ثباتاً ومَعْلماً للاستقرار الداخلي منذ عام 2008. لا يقتصر هذا الخروج على التحلّل من الالتزامات التي ربطت الحريري بالثنائي الشيعي في السنوات الأخيرة، وأحالته ضرورة ملحّة له كي يكون في السرايا، وفي الوقت نفسه الشريك السنّي الوحيد المختار، بل أفضى – من حيث شاء أو لم يشأ – الى تشتيت دور السنّة اللبنانيين في المعادلة الوطنية. مذ أُقفلت صناديق الاقتراع الأحد، لم يعد الهمّ الأساسي المثير للتساؤل مَن مِن السنّة سيفوز، مقدار ما كان على مَن سيُقسّم قالب الجبنة السنّي كي يهدى إما الى غير السنّة أو الى أولئك المستعجلين وراثة زعامة الحريري. في وسع هؤلاء جميعاً التباهي بالحصص الجديدة، الى أن تنفجر المشكلة يوماً ما.
أفضى خروج الحريري الابن الى عكس ما رامه الحريري الأب يوم دخل الى السرايا أولاً ثم الى المجلس النيابي: ما بين عامَي 1992 و1996 أحدث الرئيس رفيق الحريري انقلاباً غير مسبوق بأن أفرغ الشارع السنّي من زعمائه وقياداته بشتى الوسائل والقدرات، كي يملأه هو – رغم أن المرحلة تلك كانت قد فقدت الكثيرين من الرموز التاريخية والتقليدية في الطائفة – ولم يكن يبقى في الصدارة سوى الرئيسين سليم الحص وعمر كرامي، وفي الظل الرئيس رشيد الصلح. في حصيلة ما انتهى إليه استحقاق 2022 انتخاب النواب السنّة بمَن حضر، وتحوّلهم الى كتل صغيرة محلية منفصل بعضها عن بعض. لا قاسم مشتركاً يجمع في ما بينها. بيد أن أكثر ما يُفرّق هذا البعض عن ذاك انقسامها على نفسها حيال الموقف من حزب الله.
ربما الاستثناء التمثيلي المنطقي الوحيد هو صيدا التي استعادت عائلتيْها التاريخيّتين في زعامة المدينة من غير أن تجتمعا مرة في دورة واحدة: ابنا النائبين السابقين المتنافسين معروف سعد ونزيه البزري.
2 – التحوّل المهم في الشارع المسيحي بأن نقل الأكثرية التمثيلية المُعبَّر عنها من التيار الوطني الحر الى حزب القوات اللبنانية، كي يحضر الأخير أكثر من أي وقت مضى – وهذا ما لم يُعط له أن يكون مرة – في صلب المعادلة السياسية. يملك أن يوافق، ويملك أن يرفض، وينتزع بنفسه فيتو حُرم منه على الدوام واستبدله بالحرَد.
رغم دخول الحزب الحياة السياسية وفي مجلس النواب منذ عام 2005، بالتزامن مع التيار الوطني الحر، ظل الأفرقاء الآخرون الذين احتاجوا – لأسباب مختلفة متباينة – الى التعاون والتحالف معه، كالحريري ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، ينظرون إليه بريبة ويخشون المغالاة في الاقتراب منه، كما في إعطائه المكاسب. ذلك ما عنته حصصه في الحكومات المتعاقبة منذ عام 2005. لم تعنِ الحاجة إليه سوى أن يكون المُعادل المسيحي في المواجهة مع التيار الوطني الحر وحزب الله.
ليس رئيس الحزب سمير جعجع اليوم سوى «الضبع» المسيحي الجديد المثير للقلق في أي من خيارات التحالف التي سيرسيها في البرلمان الجديد. لم يعد يحتاج الى الحريري وكرّس تقدّمه في الانتخابات، ولا سيما في الدوائر التي فيها ناخبون سنّة، القطيعة النهائية معه. اطمأن الى الظهير السعودي له، وأمسى شريكاً فعلياً لجنبلاط في جبل لبنان الجنوبي، وتخلّص نهائياً من الشكوك التي كان يبعثها تحالف التيار الوطني الحر مع حزب الله: كبّر حصته المسيحية على حساب غريمه، وانتزع من الثاني ما يفترض عند الحزب أنه في عقر داره وهو المقعد الماروني في بعلبك – الهرمل.
3 – دخول المجتمع المدني بشتى مسمياته الى البرلمان للمرة الأولى، بعدما اعتاد أن يتظاهر أمامه ويقطع الطريق عليه من الخارج ويتعرّض للاعتداء. وسواء تحالف نوابه الجدد مع النواب الذين سبق أن استقالوا وعادوا الى البرلمان الجديد بأحجام معززة، أو شاؤوا إدارة مواجهتهم على طريقتهم، بات من باب لزوم ما لا يلزم التأكيد أن ثمة ضيفاً ثقيلاً جديداً على الطبقة السياسية الحاكمة.
أضحى نواب المجتمع المدني ثالثة أقليات البرلمان الجديد، بعد أقلية أولى يمثلها الثنائي الشيعي والتيار الوطني الحر، وأقلية ثانية يفترض أن تمثلها كتلة حزب القوات اللبنانية وحلفاؤها السنّة الجدد في طرابلس وزحلة. لعل أول اختبار جدي للأسلوب الذي يتحضّر له نواب المجتمع المدني، من غير أن يمتلكوا بالضرورة سوى القدرة على الاعتراض والشغب، انتخاب رئيس للبرلمان ومن ثم الاستشارات النيابية الملزمة لتسمية رئيس مكلف للحكومة. واقع الأمر أن رهان هذا الفريق يكمن في تقاطع دوره داخل السلطة الإجرائية مع وجوده في الشارع ومقدرته على التحرّك، مذ استمدّ شرعيته من حركة الاحتجاج في 17 تشرين الأول 2019.