كتبت ريتا بولس شهوان في “نداء الوطن”:
“بالسراج والفتيلة” يبحث اللبنانيون عن طريقة لإحياء مناسباتهم الاجتماعية. يجمّعون من غلّة الشهر على مدى أشهر، ليدفعوا بدل الغداء او العشاء الذي يقيمه بعضهم في المطاعم بعد العمادة مثلاً، أو القربانة الأولى، أو العرس… فحتى لو تخلى بعض «الراشدين» عن عادة الاحتفال بعد العرس، إلا ان أهل البعض متمسكون بصناعة الذكريات الجميلة، لاطفالهم، لتبقى “ذكراً” يخبئونه في “ألبوم” الأيام. لهذا سألت «نداء الوطن» اين تجري هذه العادة الاجتماعية بين سكان المتن، وكسروان، وجبيل، كما جالت على روّاد المقاهي والمطاعم وأصحابها لتستفهم ان كانوا ما زالوا يقصدون المطاعم؟
25 دولاراً الحد الأدنى على الشخص للمناسبة الاجتماعية!
يحتاج تنظيم مناسبة اجتماعية في مطعم الى محاضرات في علم المحاسبة والإدارة. والدليل على ذلك نمط الحياة الذي اتبعته آديل وزوجها خلال عام، لتيسير أمور القربانة الأولى لابنتهما. بـ25 دولاراً على الشخص مقابلها بالليرة اللبنانية، كانت الام تدّخر طيلة عام. مع كل مليوني ليرة تحافظ عليها، تحوّلها الى دولار مباشرة كي لا يتلاعب سعر الصرف وتخسر من قيمتها. هكذا على قدر المبلغ الذي استطاعت أن تجمّده في منزلها، انتقت عدد الاشخاص، وحصرت الامر بالعائلة القريبة جداً من اشقاء الزوج وعائلتها المصغرة. استعانت فوق كل هذا الجهد في التنظيم، بخدمات صديق زوجها، وهو مالك مطعم سايرها بالأسعار بحكم المعرفة. لا تريد آديل ان تلغي هذه العادة الاجتماعية من قاموس عائلتها، إذ إن ابنها الأول كان له الحظ ان يحتفل بقربانته الأولى بايام «البحبوحة»، أي تلك الأيام التي كان سعر الصرف ما زال ثابتاً سائلة: لماذا نظلم الثاني ونحرمه من هذه الذكرى؟
أما غلاديس التي تحضر لحفل عمادة ابنتها، فخرجت من خيارات مطاعم منطقتها، أي المتن، لأن أسعار مطاعم كسروان أقل عند الصعود الى الجبال، «لو البنزين يعوِّض فرق الأسعار» على حدّ تعبيرها. تتكل الام على «النقوط» الذي سيسدّ اقله نصف قيمة المناسبة.
ليس الآباء والأمّهات وحدهم من تحترق قلوبهم من الحرمان، بل أيضاً العرسان، فجيسي التي تحضّر عرسها طلبت بإصرار من زوجها المستقبلي الاحتفال بعشاء. اختارت هي المطعم وكانت الأولوية للسعر، ثم نوعية المأكولات وكميتها وطلبت من المدعوين الذين لا يريدون الحضور الاعتذار مسبقاً كي يكون الحجز مؤكداً على عدد الحاضرين وكي لا يتم الدفع عن «غيّاب»، وكل ذلك بداعي التقشف فوق التقشف في عدد المدعوين.
يتضح لنا بعد جولة على المطاعم، ان هناك تسعيرة خاصة بالقربانات والمناسبات كالأعراس والخطبة والعمادات، التي تجمع عدداً من المعازيم، وتبدأ من الـ25 دولاراً لتصل إلى الـ40 والـ50 في بعض الأماكن وهذه تحدد بالدولار عند تسلم المبلغ كاملاً. استفتت «نداء الوطن» عينة من المطاعم في جبيل وكسروان والمتن ووجدت أن اكثر من 70% من هذه المطاعم محجوزة في نهاية الأسبوع، اذ ان اللبناني يرفض أن تمرّ مناسبة، ستتحول الى ذكرى سعيدة، دون احتفال. الا ان لائحة المدعوين لا تتخطى الـ50 شخصاً حسب أصحاب المطاعم، وهذا الامر يختلف عن الاحتفالات في السنوات المنصرمة.
هل من يزور المطاعم والمقاهي؟
ان كانت المطاعم تتقاضى «على الراس» بالدولار في المناسبات، هل تفعل بالمثل طيلة أيام الأسبوع؟ ينتفض روميو (صاحب مطعم في كسروان) من السؤال، برأيه لا الزبائن الذين ينتمون الى شريحة الموظفين والطبقة المتوسطة قادرون على الدفع يومياً بالدولار، ولا الدولة تسمح بالتسعير بعملة غير تلك اللبنانية. يشرح ان الصعوبة اليوم هي في إعداد أسعار لائحة الطعام، اذ يصر على مصداقيته امام الزبائن. يُهَمْهِم، «أحياناً بعض التجار يحددون سعر صرف الدولار على ذوقهم، متخطين سعر الصرف بالسوق السوداء، بألفين وثلاثة آلاف ليرة ترقباً للايام القادمة». ارخص سلطة لدى روميو تبدأ بالـ150 ألف ليرة، ويلاحظ من روّاده ان الصحن يقسم على 3 اشخاص فيدفع الفرد الواحد 50 ألفاً. هكذا يستخلص من خبرته، انه مع الأيام خف الطلب على الطاولة الواحدة، لو ما زال اللبناني محتفظاً بـ «ضهرته»، أقله تلك الشهرية. وتفاجأ زاهي صاحب مطعم (متن) بتبدل في سعر الصرف بعد الانتخابات، ولا يعرف كيف يجاري نمط سعر الصرف المرتفع، متروياً بهذه الخطوة اذ ان تغيير لائحة الطعام الورقية مكلف. اما جنون الأسعار فهو لدى مطاعم السمك (جبيل) فأرخص كيلو سمك بـ800 ألف ليرة. تشرح جانين (صاحبة مطعم في كسروان) سبب ارتفاع الفاتورة منذ 6 اشهر حتى الساعة، وقدرت الرقم بـ 20%، فاضافة الى أسعار المواد الغذائية التي تسعّر بالدولار فهناك تسعيرة المازوت والغاز التي أصبحت جزءاً من تكلفة صناعة المأكولات.
هذه الزيادات يتحمّلها الزبون الذي ما عاد يجد صنفاً بأقل من 100 ألف ليرة، وذلك هو سعر الفتوش او التبولة وربما اللبنة التي هي اقل بقليل. اما الاطباق الأخرى فالحد الأدنى منها هو 250 ألف ليرة. حال المقاهي ليست أفضل بكثير. فتقسم فاتورة النرجيلة (سعرها 120 ألفاً في بعض مقاهي كسروان و150 في المتن وجبيل) على شخصين مع عبوة مياه، او قهوة. يفنّد شادي، الذي يختار المقهى الذي لا يتخطى سعر القهوة فيه العشرين ألف ليرة، نمط حياته المستجد تماشياً مع سعر الصرف. شادي اعزب، ولا يفكر بالارتباط حالياً بسبب لبكة العرس والسهرة وما الى ذلك، مكتفياً بـ»السولفة» مع الاصحاب في القهوة اسبوعياً، فهو غير مضطر إلى دفعات جانبية فقط ليلتقي الأصدقاء. يترك خيار الساندويش والنرجيلة معاً اذ ان سعرها «بوجع»، فهي ليست من ضمن مصاريفه، فمدخوله محدود بـ4 ملايين ليرة. ليس هذا الرجل وحده من «يفرِّج» عن نفسه بالقليل، فسيرج استبدل الويسكي بالبيبسي، وان استطاع ان يوجه الجلسة الى منزله فذلك «ارخص وارخص». والسبب؟ اكتشفت «نداء الوطن» ان سعر فنجان القهوة في أحد المقاهي المشهورة في لبنان والأكثر ارتياداً من الطبقة الوسطى 40 ألف ليرة، وفي آخر يستهدف شريحة طلاب الجامعات انما هو 38 ألف ليرة، ويرتفع مع تبدل النكهة او الجنسية ليصل الى الـ50 مع الأميركية.
ما مصير قطاع السياحة ؟
سألت «نداء الوطن» نقيب أصحاب الفنادق بيار الأشقر عن انفراج قريب لقطاع السياحة في ظل هذه الأزمة، واحتمال ان يشكل السيّاح بارقة امل لاصحاب المقاهي والمطاعم، واعتبر انه لحد الساعة لا ارقام بعد كمؤشر على عدد السيّاح القادمين. الواقع السياحي بنظره محصور اليوم بسيّاح من المواطنين الأردنيين، والمصريين والعراقيين الذين يتوجهون نحو لبنان. خارج هذه الجنسيات، لا سيّاح، وحدهم المغتربون الذين يقاربون الـ400 الف مغترب، يعودون للسياحة الداخلية على حد تعبيره، فيتنقلون بين المناطق كجونية، اهدن وغيرها. ويربط سبب تقلص حجم السياح الخليجيين والعرب بسبب تردي سمعة لبنان المشوّهة بفعل تداعيات الازمة السياسية مع الخليج. بنظر الأشقر الخليجيون يشكلون العمود الفقري للسياحة اللبنانية، ومسألة وجود السلاح وحالة الافلاس تسوِّد سمعة لبنان، ولا تشجع السائح فحتى الدول التي تسمح لرعاياها بزيارة لبنان لا يتقدم على هذه الخطوة. فهل تصمد المطاعم والمقاهي وتعيش فقط من المناسبات الاجتماعية، ام يرفع المغتربون معنوياتها؟