كتب وجيه فانوس في “اللواء”:
يدخل لبنان، بمجرَّد أن انتهى الشَّعبُ من انتخابات المجلس النِّيابي، إن لم يكن قد دخل فعلًا، مرحلة الإعداد لانتخاب رئيس جديد للجمهوريَّة. تنصُّ المادَّة ٤٩ من الدُّستور اللبناني الحالي، على أنَّ رئيس الجمهوريَّة “ينتخب بالاقتراع السرِّيِّ بغالبيَّة الثُّلثين من مجلس النُّوَّاب في الدَّورة الأولى، ويكتفى بالغالبيَّة المطلقة في دورات الاقتراع التي تلي؛ وتدوم رئاسته ستُّ سنوات ولا تجوز إعادة انتخابه إلَّا بعد ستِّ سنوات لانتهاء ولايته”.
ولا يبدو أمرَ الانتخاب هذا، في ظاهره معقَّدًا البتَّة؛ بل، ووفاقًا لِما برد في النَّصِّ الدستوريِّ، هو شأن شديد البساطة والسَّلاسة، لا يتطلَّب من نوَّاب الأمَّة سوى الحضور، في اليوم المحدَّد، إلى جلسة الانتخاب والإدلاء بأصواتهم. وكأنَّ القضيَّة، نظريًّا، لا تتحمَّل كلَّ هذا الهمَّ، الذي بدأ يدور بين اللُّبنانيين ويأكل في صحنهم؛ ولا تتحمَّل، كذلك، شيئًا من الخطوات الاستباقيَّة، الاستراتيجيَّة منها والتَّكتيكيَّة، في التّعامل النِّيابيِّ معها؛ ولا تتحمَّل، مبدئيًّا، ما بات يثيره بعض المراقبين والمحللين، من إمكانيَّات حصولٍ لفراغٍ دستوريٍّ، قد يطيحُ بكثير من مقوِّمات البلد، وربما يدفع به وبنظامه وناسه إلى مهاوٍ لا تُحمد عقباها ولا تؤمن شرورها على الإطلاق.
تفيد التّجربة العمليَّة أنَّ انتخاب رئيسٍ للجمهوريَّة في لبنان، وإن كان في ظاهره النَّظريِّ، شأنٌ ديموقراطيٌّ داخليٌّ بحت؛ فإنَّه، في وجهِهِ الآخر العَمَلِيِّ، من الشُّؤونِ الدَّوليَّةِ ، التي تتقاطع عبرها مصالح عديدة، متشابكة ومتباينة ومتعارضة ومعقَّدة، بين عديد من الدُّول المعنيَّة بهذا الأمر؛ وبغضِّ النَّظر عن كون هذه الدُّول صديقة للبنان أو عدوة له. أمَّا ما يضعُ لبنان في هذا الموقفِ الشَّديد الحساسِيَّةِالسِّياسيَّة والمسؤولِيَّةِ دوليًّا ومحلِّيًّا، فيعود، بنظر غالبيَّةٍ من المحلِّلين، وحتَّى المؤرخِّين والمتابعين السِّياسيِّن، إلى أنَّ لبنان، ومنذ أن صار دولة، بل حتَّى قبل ذلك بكثير، شأنه في هذا شأنُ كثيرٍ من الدُّول الصَّغرى ذاتِ المواقعِ الاستراتِيجِيَّةِ اقتِصادِيًّا وجغرافِيًّا وسِياسيَّا، ليس بالقوَّة السِّياسيَّة والوطنِيَّةٍ التي تُتيحُ لِقياداتِهِ التَّفرُّد باتِّخاذ القرارات فيه. واقع الأمر، إنَّ غالبيَّة من الدَّارسين للأوضاع الدَّوليَّة، يميلون ميلًا بيِّنًا إلى اعتبار لبنان «بلداً مرآةً»؛ يعكس ما يدور حوله من شؤون وقضايا ومسارات؛ أكثر منه «بلدًا قادرًا» على توجيهٍ كاملٍ وفعليٍّ، يصدر عنه في مجالات القرارات الدَّوليَّة والإقليميَّة والمسارات المتأتية عنها.
واقعُ الحال، إنّ مرحلة الإعداد لانتخابات رئيس الجمهوريَّة اللُّبنانيَّة، تتجاوز كلَّ عناصر البساطة الدُّستوريَّة التي تُظْهِرُها المادَّة ٤٩ من الدّستور اللُّبنانيِّ؛ وتقعُ، تالِيًا، في عُمقِفاعِلِيَّةِ التَّجاذباتِ، المُعلنةِ والمُضمرةِ، لمصالح عدوَّةٍ وصديقةٍ، مِن قِبَلِ مجموعات مُتناحِرَةٍ فيما بينها أو متكاتفة، من دُوَلِ السَّاحتين الإقليميَّة والدَّوليَّة.
إنَّ هذا الواقع، ليسَ بمُسْتَجِدٍّ على الإطلاق، إذ ثمَّة من يُعيده إلى التَّدخُّلِ الأوروبيِّ، بريادة النِّمسا، سنة ١٨٤٣، في تقرير «نظام القائمقاميتين»؛ وما حصل، تاليًا، من توافقِ الدُّولِ الأوروبيَّة السَّبعِ في إقرار «نظام المتصرفيَّة» سنة 1861؛ وما أعقب بدء مرحلة «الانتداب الفرنسيِّ» سنة 1918، من تسميات لرؤساء الجمهوريَّة؛ ثم ما حصل سنة 1943 من بسط لسلطة الإنكليز، عبر الجنرال البريطاني إدوارد سبيرز، إبَّان تدابير مرحلة انتقال السُّلطة الفرنسيَّة الدَّوليَّة من «حكومة فيشي» الى «حكومة فرنسا الحرة”، في انتخاب الرَّئيس الاستقلاليِّ الأوَّلِ، بشاره خليل الخوري؛ وحتَّى التَّوافق الشَّهير الذي حصل سنة 1958 بين الرَّئيس العربيِّجمال عبد النَّاصر والرَّئيس الأميركيِّ دوايت أيزنهاور، على تسمية اللِّواء فؤاد شهاب رئيسًا للجمهوريَّة اللُّبنانيَّةِ، وسَعىُ المندوب الدِّبلوماسيِّ الأميركيِّ إلى لبنان، روبرت مورفي، إلى إبلاغ المعنيين في البلد بأمره؛ وقوفًا، فيما بعد، عند الإرادة السُّوريَّةِ في ترجيحها كفَّة انتخابِ شخصٍ على سواه لِرئاسةِ الجمهوريَّةِ، منذ سنة 1976 وحتَّى سنة 2005؛ ولعلَّ عمليَّة الانتخاب الوحيدة التي جرت بفاعليَّة القرار الدَّاخليِّ وحده، طوال هذه الفترة، التي تطاول 179 سنة من تاريخ لبنان المعاصر، كانت سنة 1970، في انتخاب الرَّئيس سليمان فرنجيَّة لرئاسة الجمهوريَّة اللُّبنانيَّة، بفارقِ صوتٍ انتخابيٍّ واحدٍ عمَّا ناله منافسه على منصب الرِّئاسة.
إنَّمن الأهميَّة،المُطلَقَةِ والأساس، فِعليًّاودَوْلِيًّا وإقليميًّا ومَحَلِّيًّا، التي تتَّخذها هذه المرحلة الرَّاهنةُ للإعداد لانتخاب رئيسٍ للجمهوريَّة في لبنان، أنَّ كثيرًا من اللبنانيّيِنَ بدأوا يعاينون، في هذه الأيَّام، بعضًا من الهواجس القلقة تجاه ما يجري تداوله من ضرورةِ قيام مساعٍ حثيثةٍ لِتشكيلِ حكومةٍ جديدةٍ؛ تتولَّى، بصورةٍ خاصَّةٍ وأساسٍ،إدارةَ المهام التَّنفيذيَّة في البلاد، ولمدَّة قصيرةٍ ومحدودةِ، تمهيدًا منها لانتخاب رئيس للجمهوريَّةِ، بعد أشهر قليلة قادمة في الخريف المقبل.تقع حقيقة الموضوع، في أنَّ الأمر لا يحتاجُ، هذه المرَّة تحديدًا، إلى مجرَّد رئيس للوزراءِ يمثِّل شعبيَّة جماهيريَّةً لدى طائفته أو بيئته؛ مؤكِّدًا، بشعبيَّته هذه، عدم تهميش الطَّائفةِسياسيًّا، ومثبتًا، في الوقت عينه، زعامةَ ما لمنطقتهِ وفاعليَّةً لمؤيديهِ على السَّاحة السِّياسيَّة الآنِيَّةِ في البلد.إنَّ المهمَّة المطلوبة من الرئيس الذي سيكلَّف تشكيل هذه الحكومة،بشكل خاصٍّ، محدودة بزمن شديد القِصر، وبمتطلِّباتٍ تنفيذِيَّةٍ شديدة التّعقيدِ من الخبراتِ والعلاقاتِ الدَّوليَّةِ والمحلِيَّةِ، ومشفوعة بمقدرة عظمى على استبصار الآتي من الأحداثِ والتَّحدِّياِت، وتحديد المواقف من هذا الآتي وباتِّجاهه؛ وإلَّا صار الأمر إلى استِشْراءٍ للعبَةٍ قاتِلَةٍ مِن التَّلهي الاستفزازيِّ والانتهازيِّ والاستغلاليِّ، بين الدُّولِ والجهاتِ المعنِيَّة، لِفًراغٍ رئاسيٍّ؛ قد يبدأ حتمًا في تاريخ مُعَيَّنٍ، غير أنَّ أحدًا لن يمكنه تحديد موعد انتهائه؛ وخاصَّة في الأجواء الدَّولية الرَّاهنة المحمومة. وإنَّ الرُّؤيةَ عينها، في هذا المجالِ، تندرجُ، ولو بشكلٍ أقلَّ وَطْأةً، ضمنَ نِطاقِ انتخابِ رئيسٍ للمجلسِ النِّيابيِّ؛ إذ المطلوب، في كلِّ هذا، وفي هذه المرحلةِ، إنقاذُ البلدِ والجوهرِ الدِّيموقراطيِّ للنِّظام القائم، على علاته، مِن الوقوعِ في أسرِ فَراغٍ دستوريِّ؛ له، كلَّما طالَ أَمَدُهُ، أنْ يُهدِّدَ بإطاحةِ كثيرٍ مِمَّا لهُ ارتباطٌ عُضْوِيٌ بِشؤونِ بِناءِ البلدِ وحمايةِ الوطنِ وصيانةِ الثَّرواتِ الوطنيَّةِ كافَّة.
إنَّ حراجةَ المرحلةِ وأساسيَّتها وخطورتها وتحدِّياتها الوطنيَّة، تدعو إلى نَظَرٍ سِياسيٍّ وطنيٍّ احـتِرافِيٍّ وتوظيفيٍّ ناجِعٍ، بعيدٍ عن المفاهيمِ الطَّائفيَّةِ والمَذهَبِيَّةِ التَّقليدِيَّةِ، ونَقِيٌّ مِن لغة المحاصصة الانتهازيَّة والاستغلاليَّة المعتمَّدةِ تقليدِيًّا، بكلِّ ما تبثُّهُ مِن خُصُومَة فارِغَة، وشَحْنَاءَ مؤذية؛وبرئٌ، أيضُا، من المشاعر العنتريَّة الضَّيِّقةِ،والتَّشاوفِ الشَّخصي والاجتماعيِّ الأحمقِ، والمناطقيَّة المغلقةِ المَيْتَةَ الأُفُقِ الوطَنيِّ المِعطاء.
الوطنُ، قولًا وفعلًا، بحاجة إلى إنقاذ، وتحديدًا، إنَّه بحاجة، وفي هذه المرحلة أكثر من أيِّ مرحلة سواها من التَّاريخ اللُّبنانيِّ المعاصر، إلى فاعليَّة ٍطَلْقَةِ اليَدَينِ، مِنَ القادرينَ على الإنقاذِ الوطنيِّ الفعليِّ والجِدِّي؛ بغضِّ النَّظر عن أيِّ مشاعر أو مفاهيم أو قِيَمٍ أو ولاءاتٍ أخرى غير الولاء للوطنِ وقِمِ نهوضِهِ وتعزيزِ مساراتِ وحدتِهِ الوطنِيَّةِ الشَّاملةِ والجامِعَةِ والفاعِلَةِ.