كتب نسيم الخوري في “اللواء”:
كيف هطل مصطلح “المنظومة” على اللبنانيين فشغل إعلامهم وألسنتهم وعقولهم قبيل الإنتخابات البرلمانية وخلالها وبعدها بشكلٍ رهيب؟
ظهرت في التنافر والخلافات والإنهيارات السياسية والحزبية التي سبقت 17 تشرين الأوّل 2019 تاريخ بريق أو إنطلاقة الحراك أو الثورة في لبنان التي خبت ولربّما أوصلت بضعة نوّاب إلى البرلمان. بلغ التقاذف والإتهامات قبب السماء والآذان العربية والعالمية وهيئات الرقابة الدولية في فترة الإنتخابات البرلمانية لكنها تقوى وتشتدّ أكثر بكثير بعد تحوّل حكومة نجيب ميقاتي لتصريف الأعمال وترقّب الانتخاب المؤكّد لنبيه برّي رئيساً لمجلس النواب ثمّ تكليف رئيس للحكومة وتأليف حكومة جديدة وصولاً إلى انتخاب رئيس جديد للجمهورية التي لن يبقى على رأسها الجنرال ميشال عون دقيقة واحدة حسبما رشح عن قصر بعبدا.
ومع ذلك، لا تعداد لكلمة المنظومة اللبنانية المشوّهة والمفرغة من مضامينها،وبها أُلصقت كلّ الصفات البذيئة والكريهة بتجهيل أسماء المسؤولين عن الهدر والفساد والخرائب والإنحطاط الذي وقع فيه لبنان.قد يعود الأمر للجهل والتجهيل وللخوف الدفين من تسمية القيِّمين على تخريب لبنان الذين يذكّرون بالحروب الأهلية وقد عصروا لبنان كبرتقالة في يد صبي جائع.
وللتصحيح:
أوّلاً: «المنظومة» ترجمةً لمصطلح Système قوامها العناصر والأفكار المتفاعلة المنظّمة بمعانيها وأغراضها التي تصبّ في الأهداف المشتركة والإيجابية لا بالسلبيات في سلوك الدول وحكامهم لذا بدا المصطلح خارج المنطق والمعنى.
تعود المنظومة أساساً لأفلاطون في جمهوريته الفاضلة بهدف المجتمع الحضاري والعادل. أعقبه أندريه أمبير( 1775-1836) الفيزيائي والرياضي ومخترع التلغراف الكهربائي الذي استعملها منسّقاً العلوم الرائجة تركيزاً لمفهومي السلطة والحكومة.بانت المنظومة بعد ذلك في الـ 1948 ثمرة لقاء سبيرنطيقي بين أستاذ الرياضيات «نوربير وينر» و«ورين كيلّوش» عبر نماذج مجتمعات الحشرات والحيوانات وتنظيمها ودراسة مجالات تواصلها بحثاً عن تطبيقها في الإلكترونيات التي أوصلتنا للإنسان الآلي المُدار الكترونياً اليوم.أصبحت تعني المنظومة «الأتمتة»Automatisationبعدما امتزجت الآلة بالإنسان والمادة بالفكر والطبيعي بالإصطناعي فصار ت أجيال الكومبيوتر تملأ دنيانا بل «تحكمها».
ثانياً: المنظومات أساساً تكون طبيعية كالمنظومة الشمسية لها قوانينها وعلاقاتها وعوالمها، وتكون حيّة مثل المخلوقات، تتعاضد أعضاؤها للنمو والبقاء،وغالباً ما نشهد قفران النحل كهندسة مثالية وطبيعية للمنظومة فتتقدّم الغريزة في العطاء كمثال على العقل عندما يُصاب بالجنون والخراب كما في لبنان. هناك منظومات مركبة كالمؤسسات الدولية، منفردةً أو مجتمعةً، جاءت حصيلة حربين عالميتين لكنها شديدة التعقيد لأسباب الجشع البشري وطغيان زمن الإنفتاح التواصلي الراهن.
ثالثاً:يفترض السيستام، لانهائية الأنظمة والحالات والعلاقات والأهداف المشتركة التي تتغيّر بتغيّر عنصر واحد منها إذ يختلّ النظام العام.
عندما اجتاح المصطلح لبنان راحت الألسنة تستعمله بتلفظه الأجنبي «سيستام» دليلاً على التشاوف والخلط اللبناني الدارج بين الألفاظ العربية والمعرّبة،فسقط بصفته كلمة أو عبارة أو لفظة يبريها اللسان والزمان وتصقلها التجارب قبل أن تصبح مفهوماً علمياً دقيقاً محدّداً وأمثالاً وحكماً نسميّها «الكلماتٍ الذهبية» التي بدت دون التنك في لبنان وصار المصطلح مسلوخاً مشوّهاً من رحمه.
رابعاً:ليس أجدر من اللغة في تحقيق «السيستام» حيث لانهائيّة المواقع والأنظمة والحالات عند الكلام والاتصال وتنظيم الدول.وعندما يأخذ المستقلّ الحرّ موقع الفاعل يتمكن من إسقاط نفسه على الحاضر.بالمقابل يبدو الفرد التابع مقيّداً لا يكتشف قواعد اللعبة في المنظومة وقوانينها، فينمو ويؤثر ويتطور فيها ويستند على الجدليّة الضيقة المذهبية والمربحة ولو قشوراً خالية من المنطق البنّاء أي يصبح اللبناني بالكلام والإنقياد ويعمل ذليلاً لكي يصبح ويصل.
لبنان ساحة لا جديد فيها بل مشرحة دمّرت العلوم السياسية والألسنة والعقول وخلطت المفاهيم بالمصطلحات بالصفات المرتجلة والمستوردة من دون إدراك لمعانيها ووظائفها بل طغت الطائفيات المشحونة مجدداً بترسيخ المنظومات القذرة التي أفرغت جوف لبنان من دون أي تفكير رحمة سياسية واجتماعية.إنّه واقع وسخ تضجّ به المقاهي والساحات والشاشات وهو نتاج مجموعات قذرة لا تحمل سوى أقنعةً للبنان الغد.ليست المنظومة ميادين سياسية وطائفية ومذهبية فالتة ولها جذورها تتغذّى من الخارج وتتحكّم بسلوك الأفراد والجماعات ومستقبلهم، دون التماس العقول والكفاءات النظيفة أو حتّى احترام العلوم والمناهج التاريخية والاجتماعية والنفسية والمقابلات والمقارنات والإحصاءات التي منها انبثقت المنظومة.
قصدت المقاربة المنهجيّة السريعة للمنظومات في لبنان التي يتبنّاها الاعلام الذي هو منظومة يجذب اللبنانيين نحوها كما القطعان فيتفاعلون معها ليجدوا أنفسهم وعائلاتهم في منظوماتٍ لا تحدّ ولا تُعدّ بمواقفهم وعصبيتهم وردود أفعالهم.إن كشف الأغطية عن المتغيرات الآتية عبر خلافاتهم ومستقبل وطنهم ومنظوماتهم يجعل التخريف والتخويف والتحريف قواعد وعلوماً في لبنان البائس وكأنما الوطن أرجوحةً من دون حبال.