كتب فارس خشان في “النهار”:
ما إن أنهى الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصرالله كلمته التلفزيونية الأخيرة التي خصّصها لملف استخراج الغاز من الحقول المتداخلة مع الحدود البحرية الجنوبية، في ضوء دخول سفينة “انرجيان باور” إلى حقل “كاريش” التي تزعم إسرائيل امتلاكها الكامل له، حتى انهال سؤال واحد على من يتمّ إدراجهم في خانة “العارفين”: هل ستقع الحرب؟
طارحو هذا السؤال ليسوا من فئات الباحثين والدبلوماسيين ومستشرفي المخاطر، بل ينتمي معظمهم الى المغتربين اللبنانيين الذين خطّطوا لقضاء إجازتهم الصيفية في وطنهم الأم، وقد فاق عددهم، وفق تقديرات المرجعيات اللبنانية المختصة، مليون “سائح”.
تجاوَزَ هؤلاء “السيّاح” كلّ التحذيرات التي وردتهم عن رداءة البنية التحتية اللبنانية التي اختبر جميع من قصدوا لبنان في الأشهر السابقة انعكاساتها السلبية على يومياتهم، ف”لقاء الأحبّة” يُهوّن كلّ الصعاب، ولكنّهم لم يستطيعوا أن يتخطّوا إمكان أن يتحوّلوا وعائلاتهم الى ضحايا محتملين في حرب يُمكن أن يتطاحن فيها لبنان وإسرائيل.
ومن لم يختبر بنفسه تجربة حرب تموز( يوليو) 2006 سمع تفاصيلها المخيفة ممّن كان قد عايشها واضطّر إلى أن يترك لبنان بواسطة “بواخر الإجلاء” التي أرسلتها الدول التي يحملون جنسياتها.
في حينه، كانت التحذيرات من إمكان وقوع حرب طاحنة بين لبنان وإسرائيل، على أشدّها، ونشطت المرجعيات الدبلوماسية في بذل محاولات لتجنّبها، وتحرّك المسؤولون اللبنانيون في اتجاه كبار قادة “حزب الله” حاملين الرسائل الدولية التي وصلتهم، طالبين منهم الإمتناع عن القيام بأيّ عملية حدوديّة يمكن أن تتذرّع إسرائيل بها لشنّ عدوان تدميري على لبنان.
وكان الجميع يعتقدون بأنّ نصرالله سوف يتفاعل مع حججهم، فهو برز رجلاً إيجابياً بامتياز، إذ كان يجلس مع القيادات اللبنانية الأخرى إلى طاولة الحوار الوطني في عين التينة، حيث كان يتم وضع “خريطة الطريق” لبناء لبنان الجديد، بعدما تحرّر، تباعاً، من الاحتلال الإسرائيلي ومن “الوصاية” السورية.
وقد كان هذا “التفاؤل” اللبناني في تقييم نصرالله دافعاً لغالبية “العارفين”، يومها، للجزم بأنّ المخاوف من إمكان وقوع حرب ليست في مكانها.
أخطأ هؤلاء. ذهب “حزب الله”، لما فيه مصلحة المحور الذي ينتمي إليه، إلى حيث كان مُخطّطاً له أن يذهب، وردّت إسرائيل، وفق ما كانت قد خطّطت للردّ به!
حالياً، الجواب عن أسئلة الخائفين من تكرار سيناريو العام 2006، سهل ومعقّد في آن، وتالياً فإنّ الزعم بإمكان تقديم تصوّر حاسم، فيه الكثير من الغرور والإستخفاف.
المؤكّد حتى تاريخه أنّ كفّة “الحرب المرجأة” أثقل من كفّة “الحرب العاجلة”، في حال كان السؤال يتمحور حول نيّة “حزب الله” الحالية، إذ إنّ أمينه العام نصرالله قد أعطى الدبلوماسية مهلة تمتد الى اليوم الذي سوف تبدأ فيه السفينة “انرجيان باور” باستخراج النفط من حقل “كاريش”، أي إلى أيلول/ سبتمبر المقبل، وفق ما هو مخطّط له من الجانب الإسرائيلي.
ولكنّ هذه المهلة، قد يجري “تقصيرها”، إذا فشلت مهمّة الوسيط الأميركي آموس هوكشتاين التي من المتوقع أن تبدأ، يوم غد الإثنين.
وهوكشتاين لن يأتي إلى لبنان لأنّ لديه تصوّراً جديداً من شأنه أن يُحيي المفاوضات اللبنانية-الإسرائيلية المجمّدة منذ أيّار/ مايو 2021، بسبب مطالبة الوفد اللبناني بالخط 29، الأمر الذي ترفض واشنطن وتل أبيب أيّ بحث فيه، إنّما هو يُلبّي دعوة السلطات اللبنانية التي يجب أن تكون قد توصّلت الى موقف من “العرض الأخير” الذي قدّمه هذا الوسيط، بعد آخر زيارة له إلى لبنان في شباط/فبراير الماضي.
وهذا العرض إذ يخلو من أيّ اعتراف بأيّ حق للبنان في حقل كاريش، فهو يقترح حلّاً يرتكز على منع أيّ تداخل في الحقول النفطية التي تقع ضمن الخط 23 وما يجاوره من خطوط، والتي سيتمّ توزيعها بين لبنان، من جهة وإسرائيل من جهة أخرى.
وفي حال لم تتمكّن السلطات اللبنانية المختصة من حسم موقفها إيجاباً من عرض هوكشتاين، فهذا يعني أنّ مخاطر الحرب تُصبح جدّية للغاية، ولا يمكن لأحد أن يتوقّع ساعتها.
وحدهم السذّج يمكن أن يعتقدوا أنّ الموقف اللبناني يتّخذه رئيسا الجمهورية والحكومة بالتفاهم مع رئيس مجلس النوّاب، إذ إنّ حتّى الأقل معرفة بحقيقة صناعة القرار في لبنان، يدركون أنّ “حزب الله” يملك “الكلمة الأخيرة”.
وهذا يعني أنّ الموقف اللبناني من عرض هوكشتاين، مهما كان، لا يُمكن أن يكون نهائياً قبل أن يتمّ إبرامه، وفق الأسس الدستورية، الأمر الذي يُعطي “حزب الله” ما يحتاجه من وقت لمواءمة موقفه “النهائي” مع مصالح المحور الذي ينتمي إليه.
في العام 2007، توصّل لبنان الى اتفاق مبدئي على ترسيم الحدود البحرية مع جزيرة قبرص، لكنّ هذا الاتفاق بقي حبراً على ورق، بحيث لم يتم إبرامه، إذ تعرّض، في لحظة شاءها “حزب الله”، إلى مادة “تخوين” للجهات الرسمية اللبنانية التي أنجزته، كما أنّ لبنان لم يفتح مع سوريا أيّ مفاوضات لترسيم الحدود البحرية بينهما، على الرغم من أنّ دمشق قضمت من بيروت أكثر من 750 كيلومتراً مربّعاً، ويتم، على الفور، تخوين كلّ من يثير هذه المسألة.
قد يكون “حزب الله” بحاجة لمهلة قبل اتّخاذ القرار في الإتّجاه الذي سوف يُجبر لبنان على اعتماده، فالمنطقة تمرّ بأدق ظروفها، إذ إنّ العلاقات الإيرانية مع الغرب تدهورت كثيراً في الأيّام القليلة الماضية، والتصعيد الإسرائيلي ضدّ المواقع الإيرانية في سوريا وصل الى مستويات غير مسبوقة تسبّب في شلّ مطار دمشق الدولي، والمناورات العسكرية الإسرائيلية التي شهدتها قبرص حاكت حرباً بريّة ضروساً ضدّ “حزب الله”، وتحسّن العلاقات الأميركية-الخليجية عموماً والأميركية-السعودية خصوصاً لم يكن ممكناً إلّا على حساب النظرة الأميركية الى إيران، وتطلّع الحزبين الأميركيين اللذين يتقاسمان الكونغرس الأميركي الى توفير قبّة حديدية” ضد الصواريخ لحلفائها في الشرق الأوسط عموماً ومجلس التعاون الخليجي خصوصاً، لم يكن ممكناً لولا القرار بتوفير الحماية من الصواريخ الإيرانية، والسماح بدخول السفينة “انرجيان باور” الى حقل “كاريش” لم يكن ليحصل لولا ثقة إسرائيل بقدرتها على “الردع الحامي”، وخلاف ذلك من التطوّرات الإقليمية المهمّة.
ولا يمكن ل”حزب الله” الذي يعرف أنّه بحاجة إلى دعم إقليمي حاسم، في أيّ حرب محتملة مع إسرائيل، بحيث يتم فتح جبهات عدّة في آن تحت مسمّى “الإنفجار الإقليمي”، أن يسلك في أيّ اتجاه لا تقرّره إيران.
فإذا استعجلت إيران سلوك المواجهة اختصر حزب اللّه” مهلة الشهرين، وإذا أبقت خياراتها مفتوحة، يمكن أن يمرّ هذان الشهران “على خير”.
لكن ماذا يمكن أن تفعل إسرائيل، في حال وجدت أنْ لا مصلحة لها في انتظار أن يكون “حزب الله” قد أعدّ العدّة لحرب بتوقيته؟
أيضاً، لا يمكن أن يقدّم أحد الجواب الحاسم.
مصلحة إسرائيل تكمن في إنقاذ موسمها السياحي الذي سيكون هو الآخر مزدهراً للغاية، ولكنّها سبق أن ضحّت به في تموز( يوليو) 2006 وفي حزيران (يونيو) 1982، على سبيل المثال لا الحصر.
ومن يُدقّق في السلوك الإسرائيلي العسكري والأمني يعتقد بأنّ تل أبيب، في هذه اللحظة، لا تهاب خوض حرب جديدة وواسعة النطاق، وهي التي تستعدّ والقاهرة، لتوقيع اتفاق مع “الإتّحاد الأوروبي”، في الأيّام القليلة المقبلة، لتزويد دوله بالغاز الذي سيكون حقل “كاريش” بالذات مصدرَ جزء منه، الأمر الذي يجعل من التعرّض له تعرّضاً لمصالح الغرب الذي يجوب قادته العالم ليجدوا مصادر تعينهم على التخلّي عن تبعيتهم للغاز الروسي.
وقد تكون روسيا، نظرياً، مهتمة بدعم “محور الممانعة” لشنّ حرب تحول دون توفير مصادر جديدة للغاز، ولكنّها، فعلياً، ليست في هذا الصدد، فهي بالكاد قادرة على مواصلة مهمتها في سوريا، وتكبّد تكاليف حربها المفتوحة في أوكرانيا، حتى تقبل بخسارة دول رائدة في مجال تكنولوجيا المعلومات، مثل إسرائيل، تقاوم، بما أمكن، واشنطن، حتى لا تلتحق بركب الدول التي تطبّق العقوبات على موسكو.
كلّ هذا يعني أنّ السائح الذي يربط توجّهه الى لبنان في هذا الصيف بانتفاء إمكان نشوب حرب، عليه أن ينتظر نتائج زيارة هوكشتاين، فإذا تمكّن من إحياء المفاوضات، فحينها، حتى لو بقيت الحرب احتمالاً قائماً عملاً بمبدأ “العرقلة اللاحقة”، إلّا أنّها تصبح احتمالاً مرجأ الى ما بعد عودة السيّاح الى ديارهم العامرة.