كتبت كريستال خوري في “أساس ميديا”:
من الطبيعي أن تكون انطلاقة أيّ عهد رئاسي معاكسة تماماً للمرحلة الوداعيّة لقصر بعبدا لآخر الأيام الباقية من الولاية، فعندئذٍ ستتعامل القوى السياسية، كما الرأي العام، مع الفريق المغادِر للرئاسة الأولى على قاعدة أنّه سيكون خلال أسابيع فاقداً للنفوذ والسلطة وأدواتها، المرئية والمخفيّة، حتى لو كان هذا الفريق صاحب تمثيل شعبيّ، كالتيار الوطني الحر. ولكن أن يُحكم مسبقاً على آخر حكومات العهد بأنّها لن ترى النور، وسيبقى رئيسها المكلّف من دون تأليف، فتلك ظاهرة تستحقّ التدقيق.
بالفعل لا مجال للمقارنة بين أولى حكومات عهد الرئيس ميشال عون التي وُلدت في 18 كانون الأول 2016 برئاسة سعد الحريري بعد شهر وأسبوعين من تكليفه، مسجِّلة رقماً قياسياً مقارنة بسابقاتها… وبين آخر حكوماته، وترتيبها الخامس، والمقدّر لها أن تغرق في مستنقع الشروط والشروط المضادّة، فيما الاستحقاق الرئاسي يسابقها على تصدّر موقع الأفضليّة ليفرض نفسه بنداً أساسيّاً في المشاورات السياسية.
في جردة الحكومات الأخيرة التي سبقت عهد الرئيس عون، استغرق تأليف حكومة الحريري الأولى عام 2009 في عهد الرئيس ميشال سليمان أربعة أشهر و15 يوماً، وحكومة الرئيس نجيب ميقاتي عام 2011 أربعة أشهر و19 يوماً، وأمّا حكومة الرئيس تمام سلام فعانت الأمرّين إذ وُلدت بصعوبة كبيرة بعد عشرة أشهر و9 أيام.
وُلدت حكومة العهد الأولى في ظلّ مجلس نواب شَوّهه التمديد المتتالي، وبدفعٍ من رزمة من الاتفاقات التي أبرمها “التيار الوطني الحر” لكي يضمن الرئاسة:
– التسوية التاريخية مع “المستقبل” التي كلّفت الحريري الكثير من الأثمان مقابل عودته إلى السلطة بمنافعها.
– و”اتفاق معراب” الذي بُنِي على قاعدة تقاسم الحصص والمصالح.
– وخلفهما “تفاهم مار مخايل”.
لذا لم يتمكّن الحريري من وضع اليد على “الثلث الضامن”، فيما تمكّن “حزب الله” وحلفاؤه، ومعهم “التيار الوطني الحر”، من فرض الحصول على 17 وزيراً، إضافة إلى وزيرين لوليد جنبلاط، 3 وزراء لـ”القوات”، وزير لـ”المردة”، وزير لـ”القومي”، ووزير لـ”الحزب الديمقراطي”، فيما بقيت “الكتائب” خارج التركيبة الحكومية.
الحريري وباسيل ضدّ الجميع
يومئذٍ لم يتمكّن الحريري أيضاً من فرض تركيبة حكومية من 24 وزيراً، فانتفخَت إلى 30 لمصلحة فريق العهد… ولا في نَيل حقائب “نَيشَن” عليها، من بينها حقيبة وزارة الدولة لشؤون التنمية الإدارية, وفشلت “القوات” في تسلّم حقيبة سيادية أو حقيبة الأشغال التي جَيّرها برّي لسليمان فرنجية. كلّ ذلك في مقابل مطالب متصلّبة حصل عليها “العهد” والفريق الشيعي.
في حكومة 2016 بدا أنّ حصة “العهد” تشمل نظريّاً وزراء الرئيس و”التيار الوطني الحر” و”القوات” بفعل وهج المصالحة. تبدّت كقوة ضغط مسيحية تتجاوز بمفاعيلها الثلث المعطِّل، لتشكِّلَ أكبرَ كتلة مسيحية مجيَّرة لرئيسِ جمهوريّةِ بعد اتّفاق الطائف، مع ما يعني ذلك من إدارة للقرارات داخل الحكومة. لاحقاً أبرزت الاصطفافاتُ ضمن الحكومة محاورَ جديدة قوامها “التيار الوطني الحر” و”المستقبل” في مقابل كلّ الكتل السياسية تقريباً، وعلى رأسها “القوات”.
بعد الانتخابات النيابية، لم يكن المشهد الحكومي مغايراً على نحو جذري، سواء في رئاسة الحكومة التي عُقدت للحريري أيضاً أو في التركيبة. على غرار كبرى القوى السياسية خاض رئيس الجمهورية للمرّة الثانية في عهده “معركة” انتزاع حصّة وزارية، بالعدد والحقائب والأسماء، مع تكريس الحدود “الوهمية” الفاصلة بين حصّته وحصة “تكتّل التغيير والإصلاح” آنذاك. سيتكرّر الأمر في حكومة العهد الثانية: حصّة ثابتة وحدود “وهميّة” مع فريقه السياسي عنوانها المخفيّ “الثلث المعطّل”. مع العلم أنّ “الجنرال” ميشال عون، حين كان في الرابية، اعترض طويلاً على أن يكون للرئيس ميشال سليمان أيّ كتلة مرجّحة.
حسّان دياب بعد الانهيار
مع وقوع الانهيار بعدما فتحت انتفاضة 17 تشرين الأول “باب جهنّم”، تبدّل المشهد كليّاً. استقال الحريري بحجّة ضغط الشارع، فخلفه حسّان دياب رئيس حكومة اللون الواحد.
صحيح أنّ لقوى الثامن من آذار أغلبية نيابية قادرة على دعم مشروع ترئيس دياب، لكنّ الحصار الدولي والعربي والخلافات بين مكوّنات هذا الفريق والخشية من انفجار الشارع في أيّ لحظة حكمت على الحكومة بالفشل ولو أنّ ثمّة من اعتقد أنّها كانت فرصة كان بالإمكان الاستفادة منها لوضع الخطة الإنقاذية على الطريق الصحيح. لذا تحوّلت إلى اإسفنجة امتصاص مع جرعات تخديرية للتخفيف من غضبِ الشارعٍ بعد عواصف المواجهاتِ مع القوى الأمنيّة والجيش.
وكما دخل دياب السراي، على متن الانفجار الشعبي، خرج منها على وقع أصوات انفجار مرفأ بيروت، الذي ضاعف من تداعيات الأزمة الاقتصادية – الاجتماعية، ومعها النقمة الشعبية.
ثم جاءت المبادرة الفرنسية، ولم تلبث أن تهاوت تدريجيّاً بعدما عجز مصطفى أديب (المكلّف الأوّل) عن تأليفها، فاعتذر، ثمّ كُلّف سعد الحريري واعتذر بعد نحو 9 أشهر، نتيجة استفحال الخلافات بينه وبين رئيس الجمهورية وفريقه السياسي، وأفضى التوافق إلى تكليف ميقاتي.
هكذا انتهت الاستشارات البرلمانية الإلزامية بتكليف ميقاتي بـ72 صوتاً مقابل 42 نائباً لم يصوّتوا لأحد، وصوت واحد للدبلوماسي نواف سلام، فيما تغيّب 3 نواب عن الاستشارات. عاد ميقاتي إلى الرئاسة الثانية لتأليف “حكومة المهمّة” المكوّنة من اختصاصيين غير حزبيين، مدعوماً هذه المرّة بالمبادرة الفرنسية، دوليّاً، وبنادي رؤساء الحكومات السابقين محليّاً.
وكما الحريري قبْل اعتذاره، لم يحصل ميقاتي على تصويت أكبر تكتّلين مسيحيَّين في البرلمان، وهما “التيار الوطني الحر” و”القوات”، لكنّه نال أصوات كتلة “حزب الله”، خلافاً للحريري الذي نال عند تكليفه 65 صوتاً بلا أصوات الحزب. كان عون وجبران باسيل يرفضان وجود الحريري، وقد نجحا في دفعه إلى الاعتذار، بعدما أخذ الخلاف بينهم طابعاً شخصيّاً، وكانت حجّتهم يومها أنّ السعودية ترفض الحريري.
طوال رحلة تكليف الحريري، تمحور خلافه مع الرئيس عون حول التضارب في شرح الصلاحيات الدستورية، إلى جانب الخلاف على توزيع الحقائب الوزارية وعدد الوزراء، مقابل تمسّك عون بتسمية الوزراء المسيحيين، وما يُعرف بالثلث المعطِّل، وبحقيبتَيْ الداخلية والعدل.
لكن خلافاً للحريري الذي رفض طوال رحلة تكليفه أن يلتقي باسيل، استهلّ ميقاتي مهمّته بلقاء رئيس “التيار الوطني الحر”. بيد أنّ معنيّين يقولون إنّ الاتصالات الثنائية بينهما استمرّت في الأسابيع الأولى من عمر الحكومة، على مستوى مباشر أو من خلال صديق مشترك (صهر طه ميقاتي)، غير أنّها انقطعت بعد ذلك فتولّى رئيس الجمهورية إدارة التواصل بينهما، كما يحصل راهناً.
تحوّلت حكومة ميقاتي إلى حكومة تصريف أعمال، ويُخشى أن تصير خلال أسابيع قليلة حكومة كل وزير فيها رئيس جمهورية، وأسوأ ما فيها أن تتولّى إدارة الشغور الرئاسي لأشهر غير معدودة.