كتب سامر زريق في “أساس ميديا”:
لمْ تكنْ التغريدة التي نشرها أمس الأول النائب السابق مصطفى علّوش، والتي توجّه فيها مباشرةً إلى الأمين العام لتيّار المستقبل أحمد الحريري، ولو لمْ يسمِّه، سوى محطة من مسار متدرّج بدأ يسلكه علوش تجاه قيادة المستقبل. هذا المسار من المتوقّع أنْ يتطوّر أكثر في المستقبل القريب ليتحوّل إلى جبهة سياسية معارضة ضدّ حزب الله وحلفائه، وأيضاً ضدّ القيادة الحالية لتيّار المستقبل، في محاولة لإعادة استنهاض جمهور رفيق الحريري بشكل خاص عقب الإحباطات الكثيرة التي مُنِيَ بها.
يحاول علّوش، الوفيّ والسياسي، قدر الإمكان، طيّ صفحة الانتخابات النيابية وأخذ خسارتها بصدره، لكيْ لا يتمّ الردّ على ما يقوم به بأنّه انتقام من مرشّح خاسر بأثر رجعيّ. هذه الخسارة التي حوّلها بعض قيادات التيار الأزرق إلى مادّة للشماتة والتشفّي، لم تكنْ سوى نِتاج عمل “غير نظيف” من التيّار نفسه للتخلّص ممّا تبقّى من الصقور والمفكّرين القلائل.
الغدر المنظّم
منذ اتّخاذه القرار بالترشّح، كان مصطفى علوش يعلم أنّه سيواجه حملة شديدة من الذباب الأزرق ومحرّكيهم من وراء حجاب تلك الحسابات. لكنّه لم يكنْ يتوقّع أنْ تصل الأمور إلى هذا الدَرَك من الإسفاف. على الرغم من ذلك أصرّ على المهادنة، وامتنع عن ردّ الإهانات إلى مطلقيها ومحرّكيها، آملاً أنْ تعود قيادة المستقبل إلى رشدها ولو متأخّرة، وهي التي تعرف أنّ علوش لمْ يكن ولنْ يكون يوماً خائناً أو طاعناً بالظهر، بل هو صاحب رأي حرّ، وهنا بالضبط تكمن المشكلة.
وكان علوش حريصاً عند تشكيله لائحة “لبنان لنا” على عدم التحالف أو ضمّ أيّ شخصية قد تشكّل استفزازاً للمستقبل، خاصّة بعدما اجتمع به الأحمدان الحريري وهاشمية، وأكّدا له أنّهما بريئان من حفلة التخوين التي شُنّت عليه.
ولكي يُقرن القول بالفعل، ترك أحمد الحريري لمسؤولي المستقبل في طرابلس حرّية العمل مع علّوش، لا بل شجّعهم على ذلك، وأرسل مراراً وتكراراً مسؤول الانتخابات فادي سعد لتنسيق الجهود وترتيب الحملة الانتخابية. وبالفعل بدأ معظم كوادر المستقبل العمل مع علّوش الذي لم يكن لديه خيار آخر لضيق الوقت، ولأنّه لم يكن لديه محاسيب وأزلام داخل التيار، أو جماعة يركن إليها، ما خلا أشخاصاً مقرّبين منه لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة، ومنهم مدير مكتبه السابق عبد الرزاق اسماعيل الذي حضر من فرنسا خصّيصاً للعمل معه في الانتخابات مع أنّه هاجر قبل مدّة قصيرة.
تحضير الفخّ
بيد أنّ كلّ ذلك ما كان سوى فخّ محكم أُريد لعلّوش الوقوع فيه. فمن جهة كان الهدف من عمل ماكينة تيار المستقبل معه هو تقويض حظوظه في الفوز، ومن جهة أخرى استغلاله واللائحة كرافعة لإيصال شخصيّتيْن أخريَيْن كانت قيادة التيار تريد فوزهما. ربّما تستحقّ ماكينة مصطفى علوش الانتخابية دخول التاريخ كأوّل ماكينة انتخابية تقود حملة مرشّح يجب أنْ تسوِّق له لكن تعمل ضدّه، لا بل يصوّت بعض أعضائها ضدّه. نعم قد يبدو الأمر صادماً، لكنّه حدث بالفعل.
فقبل أسابيع قليلة من موعد الانتخابات تواصلت مفاتيح المستقبل الانتخابية مع قيادتها للحصول على التوجيه الانتخابي، فكان كالتالي: معركتنا أحمد الخير في المنية، وسامي فتفت في الضنّية، وأمّا في طرابلس فيُبلّغ لاحقاً. ثمّ حدث تعديل، فحلّ عبد العزيز الصمد مكان سامي فتفت لأسباب اقتصادية بحتة. وفي طرابلس تمّ تبليغ التوجيه الانتخابي شفهيّاً لكي لا يكون هناك مستند أو محادثة أو أيّ مستمسَك. وكان التوجيه هو إسقاط مصطفى علوش.
ماكينة للإيجار
هذا القرار تمّ تنفيذه بعدّة وسائل، منها الضغط على ذوي الإمكانات المالية في طرابلس بالذات للابتعاد عن علوش، كي لا يستفيد من أيّ دعم مالي، كما حصل مع رجل الأعمال نبيل الأحمد، الذي سوّقت بقية الآلة الإعلامية للتيّار أنّه انسحب بسبب طلب علوش منه مليونَيْ دولار، فيما يعلم القاصي والداني مدى نصاعة سمعة علوش الماليّة التي لم ينجح نشر خبر مثل هذا في إثارة الشكّ فيها. ومن هذه الوسائل توزيع المفاتيح والكوادر على مرشّحين آخرين ليس فقط عمر حرفوش، وإنْ كان أبرزهم. ومع الأسلوب المتّبع من القيادة الحكيمة بالمقاطعة في مكان والمشاركة في مكان آخر تحوّل المستقبل إلى ماكينة للإيجار لمَنْ يدفع أكثر.
إضافة إلى ذلك، كانت الأمانة العامّة للمستقبل تجري اتّصالات شبه يومية بالكوادر ومسؤولي المناطق والقطاعات، فقط في طرابلس، وخاصّة المُسنَد إليهم أدوار ومناصب في ماكينة علّوش، للتشديد عليهم بمقاطعة الانتخابات عملاً بتوصية الرئيس سعد الحريري. وقد شكّلت الانتخابات فرصة ذهبية لبعض الطامحين والكارهين للتخلّص من علّوش وحضوره داخل “عقل” المستقبل. فكانت النتيجة أنْ أحجم منسّقون، وأغلب أعضاء مجلس منسّقيّة طرابلس الحاليّين والسابقين، عن الاقتراع خوفاً على طموحاتهم الحزبية.
صمت العارف
بالطبع لم ينطلِ كلّ ذلك على سياسيّ ذي تجربة عريقة مثل مصطفى علوش، لكنّه صمت مُكرَهاً، فالانتخابات على الأبواب، وهو العارف بأنّ منْ سيصوّتون له سيكونون من جمهور رفيق الحريري، ولم يكنْ يريد إثارة فضائح تزيد الطين بلّة. بيد أنّه فوجئ بأشخاص كان يعدّهم من المقرّبين جدّاً، لكنّه اكتشف أنّ “بنجامين فرانكلين” الذي تزيِّن صورته ورقة المئة دولار أقرب إليهم منه بكثير.
كانت النتيجة شبه واضحة أمام علوش قبل الانتخابات بأيّام معدودة، وقام بجمع مسؤولي ماكينته الانتخابية وتوبيخهم بشكل مهذّب عبر القول مباشرة إنّه على دراية بكلّ ما قاموا به من ألاعيب، ولم يزِدْ على ذلك شيئاً. وحسب مصادر الماكينة الانتخابية (الصادقة)، كانت أغلب الأصوات التي نالها علوش تعود لجمهور رفيق الحريري البعيد عن تعقيدات تيار المستقبل، وأمّا المحازبون والمفاتيح والمنتسبون والجمهور اللصيق، فلم يزِد ما حصّله منهم على 300 صوت.
ربّما يكون الرقم أدنى ممّا توقّعه علوش، لكنّه كان ثمرة مجهود فرديّ وخطاب سياسي عارٍ من المال والخدمات والمنافع. وبالنّظر إلى الظروف الصعبة والمعقّدة التي صاحبت الترشّح، وضيق الوقت، وحجم الإنفاق المالي الضخم الذي واجهه، يُعتبر الرقم الذي حصل عليه علوش جيّداً جدّاً ويُبنى عليه الكثير في المستقبل.
وبالنتيجة خسر علوش الانتخابات، لكنّه ربح نفسه ومبادئه وحرّيّته التي لا يساوم عليها، ومَن خسر فعليّاً فهو تيّار المستقبل، الذي سيفتقر إلى واحد من سادة المنابر والشاشات الذي لطالما كان المنقذ لهم في المدلهمّات والصِّعاب، ولا سيّما أنّه لم ينجح في تخريج قيادات جديدة طوال السنوات الماضية.