كتب محمد ملص في “الأخبار”:
أحمد وحسن، شابان من المنية وببنين، اختارا المغامرة بحثاً عن مستقبل أفضل. أحدهما وصل إلى ألمانيا قبل سبع سنوات، فيما ينتظر الثاني في اليونان طريقة تنقله إلى إيطاليا. رواياتهما لرحلة الهجرة غير الشرعية قد تبدو مشجّعة للبعض، لولا أن التذكير واجب بمئات الضحايا الذين ابتلعهم البحر.
هي الهجرة الوحيدة في العالم التي تكاد تخلو من موسم محدّد لها، ففي كلّ يوم وساعة ودقيقة، يستعدّ المئات من اللاجئين السوريين ومعهم آلاف اللبنانيين للصعود إلى أحد المراكب بغية الهجرة نحو شواطئ قبرص ومنها نحو أرض الأحلام في أوروبا. وكما يوجد مختصّون بالطب والتجارة والهندسة، بات يوجد في عكار متخصّصون في تهريب المهاجرين غير الشرعيين، عبر مراكب صيد غير شرعية، وغير صالحة لتلك المهمة أصلاً، إلا أنها باتت السبيل الوحيد المتاح أمام هؤلاء، من دون أيّ حسابات للمخاطر التي تخبّئها لهم عتمة البحار. المهرّبون باتوا معروفين بالأسماء، والأمكنة، يقصدهم عشرات الشبّان والعائلات ممن يريدون الهجرة، تُسجّل الأسماء وتُدفع الأموال مقابل تجهيز المركب وتحضيره وتزويده بالمحروقات، فيما على الرأس المدبّر أن ينتقي نقطة لتجمّع المسافرين، بعيدة عن عين الأمنيين، وغالباً ما يكون الإبحار ليلاً. يشجّع كلّ هؤلاء أن هناك من سبقهم ونجح.
إلى تركيا جواً
في عام 2015، وعقب حركة الهجرة اليومية لآلاف النازحين السوريين نحو تركيا، شهد مرفأ طرابلس، ومطار بيروت، خروج آلاف اللبنانيين نحو تركيا للانطلاق منها إلى أوروبا. أحمد (35 عاماً) أحدهم، الذي يختار قبل أن يروي تفاصيل رحلته من المنية إلى ألمانيا، التي استمرّت 29 يوماً، أن يسرد تفاصيل عن حياته المملّة في لبنان قبل هجرته “بعد حصولي على شهادة القسم الثاني وضعت نصب عينَيَّ السفر، تقدّمت إلى أكثر من سفارة ولم أنجح في الحصول على تأشيرة… بقيت سبع سنوات أحاول إلى أن أتت الفرصة واغتنمتها في عام 2015. غادرت لبنان عبر مطار بيروت، نحو تركيا. هناك عليك أن تبحث عن مركب للعبور إلى اليونان. لم يكن الأمر صعباً، بمجرد وصولك إلى تركيا، وتحديداً منطقة أزمير، تجد المهرّبون منتشرين بالمئات. ركبنا قرابة 80 شخصاً في باص يتّسع لـ20 واتجهنا نحو الشاطئ التركي. بعدها وجدت نفسي في مركب يفترض أن يتّسع لقرابة 35 شخصاً، إلا أن المهرّب حمّله نحو 50، أما الرحلة التي أخبرنا أن مدّتها ساعة ونصف ساعة، فاستمرت قرابة الـ7 ساعات حتى وصلنا إلى اليونان”.
يتابع: “أعطتنا السلطات اليونانية أسبوعاً واحداً لمغادرة البلاد، انطلقنا بعدها، معتمدين على الـGpS نحو الحدود المقدونية، قطعنا 40 كيلومتراً سيراً على الأقدام. الأراضي المقدونية مليئة بالمخاطر، حيث تنتشر العصابات وقطّاع الطرق في الغابات فضلاً عن الصقيع القارس. استغرقت الرحلة من مقدونيا إلى صربيا 17 يوماً من السير على الأقدام. النقطة الأصعب كانت عند وصولك إلى هنغاريا، أولى دول الاتحاد الأوروبي، التي تفرض على المهاجرين أن يبصموا تنفيذاً لاتفاقية دبلن على أن تتحمّل الدولة مسؤولية من يبصم لديها أو يحصل على فيزا شنغن من سفارتها أو يعبر بها. بعدما تجاوزنا هذا الأمر، كانت الرحلة الأسهل من بودابست إلى النمسا وصولاً إلى ألمانيا والتي كلّفتني 500 يورو دفعتها لسائق الأجرة”.
7 سنوات قضاها أحمد في ألمانيا، استحصل خلالها على شهادة تمريض، وبدأ العمل داخل أحد المستشفيات. يقول: “زرت أهلي مرتين منذ أشهر في لبنان. أصبحت معيلاً أساسياً لهم، لو بقيت في لبنان ولم أسافر لكان وضعي اليوم تحت الصفر… كل الصعوبات والمشاكل التي مررت بها انتهت مع حصولي على الإقامة في الأراضي الألمانية”.
…وبحراً إلى اليونان
لا تختلف حكايات مهاجري عام 2022 عن من سبقهم، ربما تتغير طرق التهريب وتتبدّل، إلا أن الهدف واحد: الوصول إلى أوروبا. حسن أحدهم، غادر منطقته ببنين في عكار قبل أسبوعين مستقلّاً المركب الذي خرج من مرفأ العبدة ووصل إلى اليونان. يروي لـ”الأخبار”، من اليونان، أن عدد الركاب كان 80 شحصاً “غادرنا تحت جنح الظلام، استغللنا إطفاء الأنوار عند مرفأ العبدة، وتجاوزنا النقاط الأمنية المخصّصة للجيش اللبناني، والتابعة للبحرية اللبنانية”.
وعن الأسباب التي دفعته لركوب المخاطرة يقول: “شغل مافي، باسبور ما قدرت طلّع، ليش بدي ضل بهالبلد… كما أن السفر الشرعي يتطلّب شروطاً لا تتوفر في الكثيرين ممن يرغبون بالمغادرة مثل المال والشهادات الجامعية، لذلك لم يعد أمامنا من منفذ سوى ركوب أمواج البحر. كلّ ما نمرّ به من صعوبات معيشية واقتصادية، يجعل ركوب البحر بكل مخاطره أهون من البقاء هنا”.
وجهة حسن لم تكن نحو تركيا، إذ تتشدّد الأخيرة في مراقبة عمليات التهريب، فيما تؤكد مصادر أمنية أنه لا يزال هناك عشرات اللبنانيين ممن يغادرون لبنان عبر مرفأ طرابلس أو مطار بيروت نحو تركيا، ومن هناك يلجأون إلى المعابر غير الشرعية والتي لا تزال ناشطة وعمليات التهريب نحو أوروبا مستمرة.
وعن المخاطر التي يتعرّض لها المهاجرون ممن يقصدون أوروبا مباشرة، يقول حسن إن بعضها يكمن في أن “نوعية المراكب، غير مخصّصة لقطع كل تلك المسافات الطويلة، بالإضافة إلى ما تحويه من حمولة زائدة (ركاب، محروقات، أمتعة شخصية، طعام…)، كلّ ذلك يعرّض حياة المهاجرين للخطر. هذا ما حصل مع المركب الأخير الذي غادر مرفأ العبدة، إذ تعطّل مهدّداً حياة من عليه، ما دفع بسائقه إلى التوجه نحو زورق تابع للبحرية اليونانية لإنقاذهم من الغرق”.
حسن موجود الآن داخل أحد المعسكرات المخصّصة للاجئين لدى الشرطة اليونانية. يقول: “أخبرتنا السلطات اليونانية أن لدينا أسبوعاً كاملاً لمغادرة أراضيها، لكننا لن نعود إلى لبنان، نريد الوصول إلى إيطاليا”.
ويؤكد حسن الخبر المتداول عن أن المركب الذي انطلق من مرفأ العبدة، كان على متنه عدد من عناصر الجيش اللبناني مع عائلاتهم. مصادر خاصة أكّدت للأخبار: “أن هروب العسكر بهذه الطريقة سيعطي حافزاً إضافياً لمزيد من العساكر للهروب، خصوصاً أن الأوضاع المعيشية التي يرزحون تحتها تدفعهم إلى تسهيل مرور المراكب عبر النقاط الأمنية. في المقابل تتحفّظ الأوساط العسكرية عن ذكر تفاصيل العملية، مؤكدة أن “الموضوع ما زال قيد التحقيق”.