كتبت كارين عبد النور في “نداء الوطن”:
هل هناك من يشكّ للحظة أن ثمة فِيَلة تهريب من الحجم الكبير قابعة في غرف لبنان الكثيرة؟ المواد المخدّرة، وعلى رأسها طبعاً حبوب الكبتاغون، تحتل الواجهة لكنها ليست الوحيدة. برّاً، بحراً، أو جوّاً، لا فرق، نسمع عن عمليات تُضبط بين الحين والآخر بوتيرة تتسارع أو تتباطأ لألف سبب وسبب. لكن غيرها الكثير من العمليات إنما يتمّ تحت جنح الثقوب الكثيرة التي تنخر جسد المنافذ الحدودية. التفلّت من الرقابة الصارمة له أكثر من بعد: معابر غير شرعية ناشطة، من جهة، ونقص في العدّة والعديد للقبض على الحدود بِيَد من حديد، من جهة أخرى. وبين هذه وتلك، يستحيل غياب القرار والتلكّؤ في معظم الأحيان إمعاناً في حالة التسيّب.
بتاريخ 30 تموز 2020، وضمن حملة مكافحة التهريب عبر تبادل المعلومات ورصد أي مخططات مشبوهة واتخاذ أقصى التدابير والإجراءات والعقوبات بحق مهرّبي السلع والمواد الغذائية، صدر مرسوم «النظام الإلزامي لمعاينة ومراقبة الحاويات والبضائع والمركبات في المرافق الحدودية اللبنانية»، حاملاً الرقم 6748. عامان مضيا ولم يدخل المرسوم حيّز التنفيذ بعد. ما أسباب التأخير وهل من حلول؟ وألا نستحق معابر حدودية آمنة تأفل معها آفة التهريب أو تُلجم أقلّه إلى حدودها الدنيا؟ أسئلة كثيرة طرحتها «نداء الوطن» على كل من إدارتي المناقصات والجمارك. ومناسبة الحديث هي عودة الخبير التقني المعيّن من قِبَل الاتحاد الأوروبي للمساعدة في وضع دفتر الشروط الخاص بالمناقصة ذات الصلة بالمرسوم إلى بيروت يوم أمس.
عن دور إدارة المناقصات
نصّت المادة الرابعة من المرسوم أعلاه على أن «تحدّد وزارة المالية، بناء على اقتراح المجلس الأعلى للجمارك، الشروط الفنّية والتقنية لأجهزة معاينة ومراقبة الحاويات والبضائع والمركبات بموجب دفتر خاص بالشروط، بغية تعزيز وتحسين عمل إدارة الجمارك في سبيل تيسير التجارة من دون الإخلال بالرقابة الفعّالة للجمارك». وإذ كان هذا الاقتراح يتطلب معرفة وثيقة بأجهزة المسح بالأشعة والتقنيات المستخدمة فيها، ونتيجة غياب جهاز فنّي متخصّص لدراسة الشروط الفنّية والتقنية المطلوبة لدى إدارة الجمارك، توجّه رئيس المجلس الأعلى للجمارك في شباط 2021 بكتاب إلى إدارة المناقصات يسأل من خلاله عن إمكانية مؤازرة إدارة الجمارك في وضع تصوّر للمواصفات الفنّية للأجهزة المطلوبة ودفتر الشروط الفنّية والتقنية الخاص، تمهيداً لاقتراحها من قِبَل المجلس على وزير المالية بحسب الأصول.
هكذا تحوّل الملف إلى إدارة المناقصات، فماذا حصل بعدها؟ يقول مدير عام إدارة المناقصات، الدكتور جان العلّية، في حديث لـ»نداء الوطن» إنه في أعقاب صدور الكتاب، دُعي لحضور اجتماع في وزارة المالية بحضور كل من رئيس المجلس الأعلى للجمارك، العميد أسعد الطفيلي، ووزير المالية في حينه، الدكتور غازي وزني. سُئل عن تطورات الموضوع، فأجاب العلّية بوضوح أن إدارة المناقصات، كما المجلس الأعلى للجمارك، لا تملك المقدرات التقنية والفنّية، لذا لا يمكن وضع دفتر شروط لمناقصة بهذا الحجم بل يجب التعاون مع خبراء من الاتحاد الأوروبي. وأضاف: «قمت بالمراسلات الإدارية اللازمة لتأمين إرسال خبير إلى لبنان، لكن يبدو أن الأوضاع السائدة في البلد وظروف الحجر الصحي القائمة وقتها أعاقت وصوله».
العلّية لفت إلى أن مؤازرة الإدارات العامة في وضع دفاتر شروط خاصة بصفقاتها لا تدخل ضمن موجبات إدارة المناقصات، لأن صلاحية الأخيرة، وفقاً لأحكام المادة 17 من المرسوم التنظيمي رقم 59/2866 لنظام المناقصات، تتناول تدقيق دفاتر الشروط الخاصة بالصفقات العمومية فقط. لكن إدارة المناقصات تجاوبت يومها مع رغبة المجلس الأعلى للجمارك إشراكها في مرحلة ما قبل إعداد دفتر الشروط الخاص بالمناقصة، تأكيداً على المنافسة والشفافية وإنجازها بأفضل الشروط، حفاظاً على مصلحة الدولة اللبنانية وانطلاقاً من موجب أخلاقي وطني ومعنوي.
الخبرة الأوروبية على خط التنفيذ
بعد مراسلات عدة حصلت بين المجلس الأعلى للجمارك وإدارة المناقصات، أعاد اجتماع المجلس الأعلى للدفاع بتاريخ 26/05/2021 تحريك المسألة ردّاً على أسئلة حول كيفية ضبط الحدود بطرق أكثر إحكاماً. وقد جرى تكليف وزير المالية متابعة إجراءات إطلاق مناقصة تحقيق كاشفات ضوئية SCANNER استناداً إلى المرسوم موضوع البحث رقم 6748.
هنا يقول العلّية: «عمدت إلى طلب خبرة فنّية متخصّصة من فريق الاتحاد الأوروبي – مرفق المساعدة التقنية عبر شركة CROWN AGENCY، واضعاً إياها بتصرّف المجلس الأعلى للجمارك من خلال تكليف مهندس من قِبَل إدارة المناقصات لمواكبة عمل الخبير بالتنسيق مع المجلس الأعلى». وهكذا حصل، إذ أنجز الخبير الأوروبي مهمّته واضعاً تقريراً أوّلياً في شهر آب 2021. وبعد إضافة إدارة الجمارك ملاحظاتها على التقرير، اطّلعت إدارة المناقصات عليها وتمّت دراستها من خلال سلسلة اجتماعات عُقدت في إدارة المناقصات بينها وبين مندوبين عن المجلس الأعلى للجمارك.
الاجتماعات انتهت بتقديم صيغة مشتركة للخبير الأوروبي حول النقاط العالقة وغير الموضحة في تقريره وذلك في شهر كانون الثاني 2022. بيد أن استكمال المهمة لم يكن بالأمر السهل بسبب غياب تمويل مشروع الدعم التقني للاتحاد الأوروبي، ما استدعى تدخّل رئيس الحكومة لتأمين استمرارية الدعم والذي تُوّج بوصول الخبير الأوروبي يوم أمس إلى بيروت لوضع الصيغة الأخيرة لدفتر الشروط. في هذا الإطار يقول العلّية: «أتوقّع أن تكون هذه المناقصة باكورة عمل هيئة الشراء العام العتيدة بالتعاون مع المجلس الأعلى للجمارك وأن تثمر مردوداً إيجابياً على مستوى سدّ منافذ الهدر وتأمين حماية كافية للموارد المموّلة للدولة اللبنانية، شرط أن تقترن حكماً برقابة متشدّدة وتفعيل دور نظام إدارة المخاطر لما له من مساهمة فعّالة في الحدّ من عمليات التهريب التي نشهدها».
مسّ بالسيادة؟
جيّد، لكن يبدو هنا أن لإدارة الجمارك نظرة مختلفة. للوقوف عند رأيها، تواصلت «نداء الوطن» مع مسؤول واسع الاطلاع فيها حيث أعرب عن عدم تأييده من حيث المبدأ للفكرة كونها تمسّ بسيادة الدولة وأجهزتها: «الكشف على البضاعة هو من اختصاص الجهاز الجمركي ويجب أن يراعي احترام الخصوصية، وبالتالي يشكّل استخدام الـSCANNER نوعاً من خرق لهذه الخصوصية»، بحسب كلامه. ثم هناك ثغرة أخرى أشار إليها المسؤول في سياق الحديث. فالكشف الذي كانت تقوم به الدولة عبر جهاز الكاشف الضوئي الذي تدمّر نتيجة انفجار المرفأ – والذي قامت بشرائه لقاء مبلغ مليون دولار تقريباً وتكبّدت كافة مصاريف صيانته التي بلغت ما يقارب الـ200 ألف دولار سنوياً – كان يتمّ بشكل مجاني. أما اليوم وبعد اعتماد نظام الـBOT الذي يعود حكماً بأرباح ملموسة، يجري تلزيم المشروع إلى شركة خاصة، كما يضيف.
من ناحية أخرى، لا يتوقع المسؤول إنجاز المشروع قبل عامين أو ثلاثة من تاريخ إطلاق المناقصة. نسأل عن الأسباب فيجيب: «يتطلّب شراء أجهزة الـSCANNER وقتاً كما هو معروف في النظام العالمي، خاصة وأن المشروع لا يغطّي فقط مرفأ بيروت بل طرابلس وصيدا وصور وكافة المرافق الحدودية. كما أن المرسوم يشمل أيضاً إنشاء مراكز للمعاينة ما يعني بناء هنغارات وغرف ما يستلزم وقتاً طويلاً، مع الإشارة إلى أن الظروف الحالية في البلد غير متوفّرة».
الشركة الملتزمة، كما علمنا، ستتولّى الإدارة التقنية بينما يقوم الجهاز الجمركي بتشغيل الجهاز. لكن تبقى بدلات الخدمة المعضلة الأساسية، وهو ما يجب أن يُحدَّد في إطار دفتر الشروط: «الشحنة التي تكلّف 10 دولار في مرفأ بيروت، هل ستكلّف 100 دولار في مرفأ طرابلس أو ألف دولار في معبر العريضة، نظراً لتباين حركة الاستيراد والتصدير، وتأميناً لمصاريف صيانة أجهزة الـSCANNER فيها؟»، يتابع المسؤول متسائلاً.
حلّ أساسي لكن غير كافٍ
الآراء متناقضة بين الطرفين كما يتبيّن للسائل. نستفسر عن آليات بديلة، فيوجّهنا المسؤول إلى النظام الجمركي المعلوماتي (NJM) ونظام إدارة المخاطر: «يجب أن تُبنى الرقابة على نظام متطوّر بحسب المعايير العالمية إذ تستحيل إمكانية الكشف على كل الشحنات. ففي مفهوم الجمارك الحديث، يتحوّل القسم الأكبر من الشحنات إلى «الأخضر» شرط أن يكون هناك رقابة فعّالة». كيف يتمّ ذلك؟ يمكن للتاجر تمرير بضاعته إن لم تحتوِ على مواد خطرة، في حين تقوم الدوائر المختصة بالرقابة اللاحقة (المتبّعة في العمل الجمركي في الدول الحديثة)، أي التوجّه مثلاً إلى الشركة صاحبة البضاعة والتأكّد من نظامها والتدقيق في فواتيرها. «نريد أن نفعّل دور هذه الرقابة لكننا، للأسف، لم نتمكّن من ذلك بعد رغم أنها أساس العمل الجمركي. فالاستخبار أهم بكثير من الكشف ويوفّر علينا الكثير من الوقت. من هنا مطالبتنا دوماً بنظام إدارة مخاطر ورقابة لاحقة ليكمل أحدهما الآخر»، بحسب المصدر المسؤول.
لا يختلف اثنان أن تفعيل عمل أجهزة الكشف الضوئي يساهم في ضبط الأمور لكنه غير كاف للقيام بالمهمة على أكمل وجه. فهو يدلّل على نقطة سوداء ما غير متجانسة مع محتوى البضاعة مثلاً، لكنّه لا يقوم بعمل الجهاز الجمركي حيث يستوجب عندها تفريغ البضاعة والكشف البشري الحسي عليها للتحقق منها. وإلى أن يُبتّ تنفيذ المرسوم رقم 6748، سيستمرّ استخدام الأجهزة القديمة الموجودة والتي لم تخضع لأي صيانة منذ ثلاث سنوات.
الوضع صعب رغم محاولات تصليح بعض الأجهزة بما تيسّر. نتفهّم ذلك لكن نسأل عن السبل المتاحة لضبط المعابر غير الشرعية وإن كان سيتمّ يوماً ما وضع حدّ جذري للتهريب عبر الحدود. يعلّق المسؤول: «لا يجب تسميتها معابر إنما مسارب، إذ إنها غير شرعية وغير ثابتة وتتغيّر كل يوم. لا شكّ أننا بحاجة إلى خطة متكاملة، لا سيّما من قِبَل شُعب المكافحات. لدينا أيضاً مشكلة كبرى تتمثّل في عديد العسكر والمعدّات كما غياب عمليات الصيانة والنقص في المحروقات حيث لا قدرة لدينا على تسيير العدد المطلوب من الدوريات لتغطية جميع الأراضي اللبنانية». من هنا، برأي المصدر المسؤول، لا بد لإنقاذ ما تبقّى من: تفعيل نظام إدارة المخاطر؛ ملاحقة الشركات الوهمية والضرب بِيَد من حديد على أي مخالفة؛ التشدّد في المراقبة والمحاسبة؛ دعم إدارة الجمارك بالعديد والعتاد وتحسين موازنتها؛ تأمين الحدّ الأدنى من الحماية للموظفين وإخضاعهم لدورات تدريبية ومدّهم بالمعنويات من خلال تأمين المطلوب للاستمرار بالعيش بكرامة.
على أيّ حال، الخبير الأوروبي حلّ بيننا مجدّداً بانتظار اللقاءات التي ستجمعه مع إدارة المناقصات والمجلس الأعلى للجمارك. فهل تحمل زيارته أنباء مضيئة، وإن نسبياً، عن مصير الكاشفات الضوئية أم يبقى نفق التهريب معتماً حتى إشعار آخر؟