IMLebanon

لبنان يغض النظر عن تحذيرات غربية خطيرة

كتبت هيام القصيفي في “الأخبار”:

يتجاهل لبنان، الرسمي والسياسي، كل التحذيرات التي وصلته عبر وفود غربية وديبلوماسيين عاملين في بيروت بضرورة التقاط الفرصة الآنية قبل انشغال دول العالم بقضاياها وقضايا أممية صارت على المحك الدولي. فيما تتراكم على طاولته رزمة أزمات داخلية، يكاد يكون تعدادها وحده مدعاة للخوف على مستقبل أبنائه، بين الأزمات الاقتصادية من الكهرباء والطحين والأدوية، إلى حالة الانفلات الأمني المتفاقمة، وأزمة القضاء وإضراب القطاع العام والجامعة اللبنانية وأوضاع المؤسسات الأمنية، إلى الأزمات السياسية من تعثر تشكيل الحكومة والمخاوف على تطيير انتخابات رئاسة الجمهورية.

يقرأ سياسيون الوضع اللبناني الداخلي من زاوية التشابكات الإقليمية والدولية بين حدثي قمة جدة وقمة طهران. ويحاذر البعض أن يكون لبنان دخل في مرحلة تشبه مرحلة السبعينيات، وهذا يعني تجميداً لأزمته لوقت طويل، إذ إن التجاذب حينها بين معسكرين وعالمين متصارعين كان حادّاً إلى درجة انفجرت فيه حرب 1975، مع فارق الأوضاع الداخلية والاقتصادية والمعيشية والاجتماعية بين مرحلتين. والأمثلة في تاريخ هذه الحرب كثيرة عن وقع التجاذب الذي أوصل لبنان في مراحل متعددة إلى سلسلة لا متناهية من المواجهات الداخلية تراكمت تدريجاً إلى أن وصل إلى حالته الراهنة، لا سيما بعد تطورات عام 2005. والخوف أكثر لدى معارضي حزب الله من أن يكون أداء الحزب، منذ إطلاق المسيرات والخطاب الأخير للأمين العام للحزب السيد حسن نصرالله، أول مؤشرات الذهاب إلى طيّ نهائي لمرحلة التسويات الداخلية، الأمر الذي يأخذ مداه مع المشهد الإقليمي الجديد.

حين انفجرت الحرب الروسية – الأوكرانية، كان لبنان منشغلاً بتداعيات الاصطفاف بين معسكرين مؤيد لروسيا أو لأوكرانيا، ولم يلتفت لا إلى أزمة القمح ولا إلى أزمة المحروقات العالمية، ولم يشغله فعلياً مدى انعكاس تطور مسار الحرب ودخول أوروبا والولايات المتحدة في مسار جديد يجعل لبنان ملفاً ثانوياً. جاءت قمة جدة وما رافقها في زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن إلى إسرائيل، لتفتح العيون على حقائق جديدة، يمكن أن تؤسس لمسار مختلف عما شهدته المنطقة بعد تراجع الحضور الأميركي فيها، في موازاة تعويم الدور السعودي مجدداً. وكل الإحاطات الاستراتيجية الغربية تعيد قراءة المرحلة بطريقة مختلفة عن السنوات القليلة الماضية، وتطرح احتمالات متصاعدة لحروب صغيرة وكبيرة في آن. في المقابل، تسعى قمة طهران إلى إحياء التوازن بين محورين، الأمر الذي سيكون موضع مراقبة دولية وإقليمية، قبل اتضاح الرؤية لمفاعيل ميزان القوى على المنطقة والعالم.
ما يعنينا، لبنانياً، أن الفرصة التي يريد الديبلوماسيون الغربيون لبنان أن يلتقطها قد تكون على طريق أن تضيع، وسط انشغال قادة الصف الأول بقضايا أكثر إلحاحاً فيما يتحول ملف لبنان إلى درجات ودوائر أقل تأثيراً، في وقت لا يعير لبنان نتائج قمتي جدة وطهران اهتماماً إلا من باب ترحيب كل فريق بنتائجها من زاوية تموضعه السياسي. فإذا كان لبنان بعد الحرب الروسية – الأوكرانية قد تمكن من أن ينفذ بانتخاباته النيابية، إلا أن ذلك لم يكن لدواعي التجاوب مع العالم الخارجي وإصراره على مواعيد الانتخابات. لا بل العكس، فإن إجراء الانتخابات النيابية وتشكيل مجلس نيابي جديد هو المقدمة لواقع الفراغ الحكومي والرئاسي.

وهذا يعني أن توقيت القمتين، الذي يأتي لبنانياً في مرحلة تشكيل الحكومة والانتخابات الرئاسية، سيكون انعكاسه حاداً ومباشراً على الاستحقاقين. لكن التحذيرات لا تنحصر في الحدثين منفصلين عن جملة التحديات الأخرى، سواء في ملف الغاز والترسيم البحري أو الإصلاحات أو خطة التعافي والتفاوض مع صندوق النقد، وبدء السير بخطة معالجة الوضع الاقتصادي والمالي. من هنا، لا يعود التمسّك بإجراء الانتخابات الرئاسية محصوراً برمزيته فحسب، بل في أن إجراءها أو عدمه هو أحد معايير انعكاس مسار التوازن الجديد في المنطقة والعالم.

لكن، بقدر ما يمكن أن يشكل ذلك خطورة على الواقع الداخلي، فإن القوى السياسية والسلطة الرسمية تتجاهل تماماً التحذيرات الغربية بضرورة استغلال الحد الأدنى الحالي من الاهتمام الدولي والإقليمي للنفاد بالحد الأدنى مما هو مطلوب لمعالجة الملفات العالقة. ويتعزز هذا التجاهل بأمرين: الانصراف إلى إهمال أبسط موجبات حل الأزمات ولا سيما الحياتية منها، الأمر الذي يحولها فتيلاً جاهزاً لأي شرارة داخلية. والأمر الثاني الذهاب إلى استحداث وافتعال أزمات جديدة داخلية، في غنى عنها لأنها تراكم أسباب الانهيار الداخلي، توازياً مع المخاطر الخارجية. وهذا ما جعل عواصم أقل تورطاً بصراع المحاور الدولي، وعلى صلة متوازنة مع القوى اللبنانية، تعطي نصائح تصب في الإطار نفسه بضرورة تحييد لبنان نفسه والذهاب إلى حلول آنية تسمح باستكمال مرحلة ما بعد الانتخابات النيابية والترسيم البحري واستخراج الغاز. لكن من الواضح أن النصائح «الغربية»، أياً يكن مصدرها أوروبية أم أميركية، لا تزال تعطي المفعول نفسه، ما دامت كلمتا السر من قمتي جدة وطهران لم تصل بعد إلى الأطراف المعنيين.