جاء في “العرب اللندنية”:
ما تزال قضية توقيف النائب البطريركي في حيفا والأراضي المقدسة والمملكة الهاشمية المطران موسى الحاج تتفاعل بين اللبنانيين، متجاوزة كافة اهتماماتهم الملحة الأخرى.
المطران الحاج الذي تم توقيفه على مدى 12 ساعة إثر عودته من إسرائيل من معبر الناقورة، ليجري التحقيق معه وتفتيش أغراضه، ومن ثم إطلاق سراحه بعد ساعات، كان قد جلب معه مساعدات مالية وطبية لتسليمها إلى الأهالي من المسيحيين والدروز. وكانت من بين التهم الموجهة إليه أنه أحضر هذه المساعدات من فلول جيش لبنان الجنوبي الذي فرّت عناصره إلى إسرائيل وتقيم فيها حتى اليوم.
الإهانة وتوقيتها
اللبنانيون الذين ثاروا ضدّ الإجراء المتخّذ بحق الحاج، بذريعة القوانين والتصاريح، ذكّروا الدولة اللبنانية بأنها لا تفعل الأمر ذاته في ما يتعلق بتهريب السلاح والصواريخ والكبتاغون ونيترات الأمونيوم
ولد المطران الحاج ببلدة عين طورة عام 1954، وانخرط في سلك الرهبنة عام 1970 في دير مار إشعيا. درس في جامعة القديس توما الإكويني البابوية والمعهد الشرقي البابوي بروما، وحصل على الإجازة في الكتاب المقدس والدكتوراه في علوم الكنيسة الشرقية.
وهو منذ العام 2012 على رأس أبرشية حيفا والقدس، وكعادة رجال الدين المسيحيين من مختلف الجنسيات العربية الذين تمتعوا بحرية التنقل بين بلدانهم والأراضي الفلسطينية، فقد بقي الحاج يذهب إلى هناك ويعود إلى لبنان طيلة السنوات الماضية، وهو استثناء خاص تم منحه للقساوسة والرهبان المسيحيين الغرض منه كان المحافظة على الهوية العربية للأماكن المسيحية المقدسة في فلسطين.
البطريرك الماروني بشارة الراعي ومعه رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع اعتبرا أن توقيف الحاج رسالة مهينة موجهة من حزب الله ومن خلفه إيران إلى المارونيين، ويرى البطريرك الراعي أن القوانين تقتضي بعدم محاكمة أسقف أو كاهن دون استئذان البطريرك. صحيح أن ما قاله الراعي يعيد اللبنانيين من جديد إلى مربّع الأذونات الطائفية والعشائرية، لكنهم لم يغادروا ذلك المربّع رغم كل ما يقال عن إرادة مشتركة لجميع الفرقاء لبسط سيطرة الدولة ومؤسساتها على الكل، ويتساءل اللبنانيون هل كان توقيف الحاج بإرادة تلك المؤسسات أم بإرادة ما يعرف باسم محور المقاومة الإيراني وأذرعه؟
الراعي يوجه الاتهام بشكل مباشر، دون أن يتلفظ بالأسماء، إلى ما سماها ”جماعات سياسية“ تقوم بممارسات ”بوليسية“ لتحوير قضية الحاج كي تصبح قضية قانونية، وهي ليست كذلك، مطالباً بأن يتم رد جواز سفر الحاج اللبناني وهاتفه والمساعدات التي كان ينقلها على الفور، لأن الرجل يقوم بدور وطني محافظاً على الوجودين المسيحي والعربي.
لم يكترث أحد بالاعتراض المسيحي على الطريقة التي عومل بها الحاج، بل أوضحت المديرية العامة للأمن العام، عبر بيان رسمي أن “ما قام به عناصرها هو إجراء قانوني تنفيذًا لإشارة القضاء من جهة، والتّعليمات الخاصة بالعبور من الأراضي الفلسطينية المحتلّة وإليها، والتي يخضع لها كلّ العابرين دون استثناء“.
وترفض تلك الأجهزة اعتبار المساعدات المضبوطة ملكاً للكنيسة المارونية، كما جاء على لسان القاضي العسكري فادي عقيقي الذي بيّن أن تلك الأموال التي بلغت نحو 460 ألف دولار هي ”ليست ملكاً للكنيسة، إنّما مصدرها من عملاء مقيمين في إسرائيل“.
صراع الأجهزة التي يهيمن عليها حزب الله وحلفاؤه مع الكرسي البطريركي في بكركي بدا حاداً هذه المرة، ما تسبب بشق اللبنانيين أكثر، على الرغم من استقبال أبرز أصدقاء حسن نصرالله الأمين العام لحزب الله، رئيس الجمهورية ميشال عون، للحاج في قصر بعبدا، واستفساره منه عمّا تعرّض له، إلا أن هذا لم يكن تعبيراً بما يكفي عن دعمٍ له من عون، بقدر ما كان نوعاً من رفع العتب المسيحي لا أكثر، حسب رأي غالبية المسيحيين. حتى مع وعوده بتنحية القاضي عقيقي ومحاسبته بعدما خالف قرار سلفه القاضي فادي صوّان الذي صدر في مايو من هذا العام وقضى بعدم اختصاص وصلاحية المحكمة العسكرية في التحقيق مع المطران الحاج الذي ”يتمتع بحصانة لا يمكن تجاوزها“.
حدود السيادة والكبتاعون
لكن الموقف غير الرسمي لامتعاض عون من تلك الرسالة ”المهينة“ عبّر عنه صهره رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل الذي قال عبر تغريدة على حسابه على تويتر “هل في ذهن أحد أن يعتبر مطراناً عميلاً لأنه يحاول مساعدة عائلات تمّ إفقارها على يد منظومة سلبت أموال كل اللبنانيين؟“. قبل أن يصدر بياناً عن تياره مطالباً بتصحيح ”الخطأ الجسيم“.
لن يستطيع عون تنحية عقيقي عن قضية الراعي، لأن حزب الله لن يسمح له بذلك، ليس فقط بسبب فارق القوة والنفوذ بين الطرفين، إنما لأن عقيقي متهم من الأفرقاء بأنه كان يخدم سياسات معينة، كان من بينها القرار الذي اتخذه باستدعاء جعجع بعد أحداث الطيونة بينما لم يجرؤ على اتخاذ القرار ذاته بحق نصرالله. وعلى الرغم من التعنت الذي يبديه القضاء العسكري تجاه قضية الحاج اليوم، إلا أنه قام بتوجيه مراسلات بعد تصاعد ردود الفعل الغاضبة إلى الأجهزة الأمنية كافة، طالباً إفادته بطبيعة التصريح “الاستثنائي” الذي يُتيح للحاج الدخول إلى الأراضي المحتلة عبر نقطة الناقورة الحدودية.
الإعلام الموالي لحزب الله يصرّ على أن الحاج لا يمتلك مثل هذا التصريح الاستثنائي، وينفي كما أوردت صحيفة ”الأخبار“ اللبنانية المقربة من الحزب، وجود مثل هذه التصاريح الصادرة عن الدولة اللبنانية أساساً، معتبرة أن ما يتم استعماله عادة هو مجرد مذكرة داخلية تصدرها الجهات الأمنية بناء على طلب الكنيسة.
اللبنانيون الذين ثاروا ضدّ الإجراء المتخّذ بحق الحاج، بذريعة القوانين والتصاريح، ذكّروا الدولة اللبنانية بأنها لا تفعل الأمر ذاته في ما يتعلق بتهريب السلاح والصواريخ والكبتاغون ونيترات الأمونيوم والمواد التي تتدفق عبر اتجاهي الحدود اللبنانية دون أن يوقفها أحد، وخارج سياق الأجهزة المعنية، وفي طرق باتت معروفة للجميع ولم تعد طرق تهريب سريّة، من الطريق العسكرية السورية اللبنانية إلى الميناء وحتى المطار.
وجاء تعليق النائب إبراهيم منيمنة الذي اتجهت إليه الأنظار متفائلة خلال الفترة الماضية مخيباً للآمال، إذ أكّد أن قوى التغيير تنتظر نتائج التحقيق، في اعتراف مباشر منهم بشرعية التحقيق مع الحاج، وأضاف منيمنة “مبادئنا واضحة بعدائنا للعدو الصهيوني والتعامل معه، ولكن هناك عمل رعوي يحصل بحدود معينة وسنرى إن كان تجاوز هذه الحدود“.
من يتمعن في حديث الحاج بعد توقيفه سيلحظ أنه لم يحدث للمرة الأولى، وأن هناك سلسلة من الإجراءات التضييقية كانت تمارس عليه طيلة الوقت، ويبدو أنها تفاقمت هذه المرة. وقال الحاج أمام الرابطة المارونية أن ما قام به هو إيصال المساعدات لعائلات لبنانية ”لأسباب ودوافع إنسانية لا علاقة لها بالسياسة أو بأيّ أجندة“.
الرابطة المارونية دعمت الحاج ودعت القيادات المسيحية والمارونية منها بشكل خاص إلى التضامن معه، للوقوف، حسب بيان الرابطة، أمام محاولة ”تقزيم الدور الذي نهضت به بكركي عبر التاريخ“.
ولم يكن استخدام الرابطة المارونية لتعبير ”تقزيم“ عفوياً هذه المرة، فهو يعكس الشعور العام بالمرارة التي بات الموارنة يتجرعونها اليوم في عهد الرئيس الماروني القوي بقوة إيران وميليشياتها، لا بقوة القواعد المسيحية والشعب اللبناني بغالبيته.
يختبئ خلف المشهد الحالي، الحرج الكبير الذي يدفع حزب الله إلى إنزال مثل هذه العقوبة بالحاج، أنه كان من الصعب على الحزب التساهل مع قدوم مساعدات ممن قال إنه ”هزمهم ففروا إلى العدو“ بعد انسحاب الجيش الإسرائيلي من جنوب لبنان في العام 2000 إلى لبنان الذي يحكمه حزب الله نفسه، بعد أن أوصله إلى الدرك الذي وصل إليه اقتصادياً وسياسياً وإقليمياً.
ما وراء المساعدات
أولئك الذين يشعر حزب الله بالحساسية منهم، بضعة آلاف يقطنون شمال إسرائيل قريباً من الحدود اللبنانية، علماً أنهم لا يشكلون جميع موارنة فلسطين، ففي حيفا وحدها يوجد قرابة ثلاثة آلاف ماروني من أصول لبنانية. كما يعيش نحو ألف منهم في عكا والناصرة والقدس القديمة.
وبينما اعتبر الرئيس اللبناني الأسبق أمين الجميل أن توقيف الحاج والتحقيق معه أمام المحكمة العسكرية “طعنة موصوفة سدّدها فكرٌ بائدٌ“، قالت الوزيرة السابقة مي شدياق في تغريدة على تويتر “عام 2000، هدّد نصرالله: سنذبحهم في فراشهم! والتسجيلات موجودة“، مضيفة أن ”التهريب يحصل من سوريا وإيران”.
من وجّه الرسالة أولاً؟
أثار حزب الله بقراره هذا الجدل من جديد حول مدى تحكمه بالدولة ومؤسساتها، فخرجت الأصوات من مختلف الطوائف محتجة على ما تعرّض له الحاج، فقال النائب أشرف ريفي إن “الممانعة تعيش على اتّهام المسيحيين بالعمالة، والسنّة بالداعشية، والشيعة الأحرار بشيعة السفارات“، غير أن رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط كان له رأي آخر رغم خصومته مع حزب الله، فقد غرّد كاتباً “نرفض الاستغلال الإسرائيلي لمقام رجال الدين في محاولة تهريب الأموال لمآرب سياسية”.
الشخصية التي استهدفتها الجهة المسؤولة عن هذه الموقف، ليست شخصية عامة وحسب، بل إن المطران الحاج يبدو نموذجاً متقدماً لن يروق لحزب الله تواجد أمثاله في النطاق الحيوي المحيط به، فالحاج المتخصص في الموسيقى أيضاً إلى جوار تدرجه الأكاديمي في الفلسفة، هو مؤسس كليّة العلوم اللاهوتيّة والرعويّة، وهو مؤلف أصدر العديد من الكتب مثل كتابه ”الأرض المقدّسة“، ويتقن اللغات العربية والفرنسية والإنجليزية والإيطالية والسريانية واليونانية والعبرية.
فهل كانت الرسالة من حزب الله أولاً أم من الموارنة؟ سؤال لا تصعب الإجابة عليه إن نظرنا إلى البيان الصادر عن المجمع الدائم للسينودس أساقفة الكنيسة المارونيّة في الصرحِ البطريركي في الديمان الذي انعقد بدعوة من البطريرك الراعي، لمناقشة ما سمّاه بـ “التعدّي المؤسف والمستهجَن الذي تعرض له المطران الحاج”.
في بيان السينودس الماروني ترد العبارات التالية عمّا وقع للحاج ”لقد صادروا منه جواز سفره اللبناني وهاتفه وأوراقه والمساعدات الطبية والماليّة التي كان يحملها إلى المحتاجين والمرضى في لبنان من كل الطوائف ومن محسنين لبنانيين وفلسطينيين، لأن دولتهم لم تُحسن في السنوات الأخيرة إدارة البلاد لتؤمّن لشعبها حاجاته الأساسية”.
لم تحسن الدولة التي يحكمها حزب الله إدارة البلاد ولم تؤمّن الحاجات الأساسية للشعب ، فاقتضى الأمر تدخلاً أراد له الموارنة أن يأتي عبر الحدود الجنوبية بكل ما تحمله تلك الحدود من إشارات ودلالات وعلامات استفهام.
وفي الوقت الذي يشرف فيه حزب الله على عملية التفاوض حول الحدود اللبنانية – الإسرائيلية وترسيمها، لا يريد لأحد غيره أن يدخل على خط التطبيع مع الإسرائيليين كي لا يغيّر شيئاً في المعادلة التي يعتقد نصرالله أنه يديرها بتوازن.