كتب خالد أبو شقرا في “نداء الوطن”:
رواتب موظفي القطاع العام التي خسرت 95 في المئة من قيمتها، ولم تعد تكفي لأيام لم تصرف بعد. فالإضراب الذي شلّ مفاصل البلد، وعطّل أعمال مؤسسات القطاع الخاص إرتدّ سلباً على الموظفين، وإن بنسب متفاوتة. إذ تشير أحسن التوقعات إلى أن الرواتب مع مساعدة شهر أيار لن تصرف قبل مطلع الأسبوع المقبل على أن تعطى مساعدة شهر حزيران في نهاية آب.
للشهر الثاني على التوالي تتأخر رواتب العاملين في مؤسسات الدولة عامة، والقطاعات العسكرية خاصة تحت ضغط الإضراب العام المفتوح. إلا أنه على عكس موظفي الإدارة المُضربين، والأساتذة الموجودين بالإجازة الصيفية، فإن العسكريين ملزمون بالحضور إلى قطعهم العسكرية وتحمّل أعباء المواصلات بين الأقضية والمحافظات. فالانتقال ذهاباً وإياباً بين مراكز «الخدمة» وأماكن السكن، يكلف قسماً من العسكريين الجزء الأكبر من رواتبهم، خصوصاً إذا كان يتم بوسائل النقل الخاصة. فيما يُضيّع القسم الآخر ساعات محاولاً التنقل مجاناً عبر إيقاف السيارات (Auto stop) من أجل توفير المال لضرورات الحياة.
إستبدال الراتب بالمساعدات
الراتب الذي كان يوضع في الحساب قبل انتهاء الشهر بيومين، تأخر في شهر تموز الفائت لمدة أسبوع، وسيتأخر هذا الشهر لأكثر من عشرة أيام وقد حلت مكانه المساعدة الاجتماعية. و»الواضح من مستوى التردي الذي وصلت إليه مختلف الإدارات في الدولة أن الأمور متجهة إلى مزيد من التعقيدات والصعوبات»، بحسب العميد المتقاعد خالد حمادة. و»الخشية من أن يتحول الأجر الشهري في القادم من الأيام من راتب كامل مع مختلف التقديمات، إلى سلفة تعطى على الراتب لتأمين أساسيات الحياة». وهذا ما يمكن الاستدلال عليه من خلال تأخير الراتب وإعطاء العسكريين المساعدة الاجتماعية التي تتراوح بين 1.5 و3 ملايين ليرة بالحد الأقصى.
حمادة الذي يرى أن دور المؤسسة العسكرية وقيامها بواجباتها لا يتأثر بتأخر قبض الرواتب، خصوصاً بعدما تدنت قيمتها بشكل هائل، يعتبر أن «مرونة القيادة في التعامل مع العسكر حدّت من الانعكاسات السلبية لتراجع قيمة الرواتب وتأخّرها. فتقليص دوامات الخدمة من جهة، والسماح للعسكريين بالعمل في مختلف المهن والوظائف في أوقات إجازاتهم، ساعدا على توفير مدخول إضافي بالنسبة إلى جزء كبير منهم وتأمين المصروف اليومي والقدرة على تسديد الفواتير. فيما تشكل التقديمات المجانية للعسكريين وعائلاتهم، خصوصاً منها الطبية والاستشفائية والدوائية والمساعدات الغذائية العينية، دافعاً مهماً للبقاء في الخدمة، وإيجاد الطريقة المناسبة للتوليف ما بين العمل الخاص والالتزام بدوامات الخدمة العسكرية».
مخاطر الإنضباط والإرتهان
العلاقة بين القيادة والعسكر أصبحت واضحة بعدما نظمت نفسها بنفسها. ففيما يتعامل الطرف الأول بمرونة ويغض النظر عن الكثير من التجاوزات، يلتزم الطرف الثاني بالحد الأدنى المطلوب لإبقاء المرافق العسكرية والأمنية تعمل. إلا أن مفاعيل هذه العلاقة المشغولة بـ»ميزان الجوهرجي»، ستؤثر حتماً على «الانضباط، وعلى حسن تلقي الأمر من قبل العسكر، وتنفيذه»، بحسب العميد المتقاعد ناجي ملاعب. «فلا شيء سيردع العسكري عن طلب التسريح، أو الفرار من الخدمة، في حال لم يعجبه الأمر المعطى له. أو حتى أن يعطي الأولوية لعمله الخاص على حساب خدمته العسكرية وتنفيذ الأوامر. فتتحول عندها المؤسسات العسكرية والأمنية على اختلاف أدوارها إلى «عمل إضافي جزئي» part time job، وليس أساسياً، بما يتناقض بشكل صارخ مع ما يتطلبه الواجب العسكري من التزام وانضباط.
مشكلة أخرى لا تقل أهمية فرضها الانهيار على المؤسسات العسكرية والأمنية، تتمثل في «إصدار أوامر لقادة الوحدات والقطع بشكل مباشر وغير مباشر بإمكانية تلقي المساعدات من القطاع الخاص والبلديات»، بحسب ملاعب، «خصوصاً في ما يتعلق بالمساعدة في إصلاح الآليات. حيث يبلغ مثلاً عدد الآليات المعطلة في قوى الامن الداخلي 600 آلية من أصل 1400 آلية. وهذا ما يؤثر على استقلالية المؤسسات الأمنية والعسكرية، وارتهانها للجهات الخاصة التي تغذّيها بالأموال».
المساعدة ليست حلاً
المساعدة الاجتماعية الموقتة التي تعطى للقوات المسلحة لا تشكل حلاً على المدى القريب أو حتى البعيد. فهي لا تعوض إلا 5 في المئة من أساس الأجر الذي خسر بسبب انهيار الليرة 95 في المئة من قيمته، ولا تدخل في أساس الراتب. الأمر الذي يحرم العسكريين مراكمتها في التقاعد وتعويضات الصرف. وإذا ما أضيف هذا الواقع على إصرار موظفي الإدارة العامة على الاضراب وتفويت 50 مليون دولار يومياً على الدولة من إيرادات، فإن «هناك ما يشي بنية حقيقية في تفريغ القطاع العام وتقليص دوره»، بحسب ملاعب. و»ما يزيد من قناعتنا، هو الإصرار على إلحاق الأذية بموظفي الدولة. وهذا يبرهن يومياً بالممارسات، وآخرها رفض ترقية العقداء في القوات المسلحة إلى عمداء بحجة عدم وجود توازن طائفي، جذوره تعود إلى دورة الحربية في العام 1994. مع العلم أن السبب الحقيقي لحجب الترقيات هو الهروب من دفع مخصصات العمداء وإعطاء التقديمات المصاحبة لها آنياً وتقليص حجم التعويضات مستقبلياً».
معالجة «الورم» في القطاع العام
مما لاشك فيه أن التضخم في أعداد موظفي القطاع العام والقوات المسلحة على حد سواء بلغ مداه الأقصى في سنوات ما بعد الحرب. ففي حين كان عدد الموظفين لا يتجاوز 28 ألف موظف في عهد الرئيس فؤاد شهاب عندما كان عدد سكان لبنان حوالى 2 مليون نسمة، أصبح العدد اليوم 230 ألف موظف، إضافة إلى 120 ألفاً في القوات المسلحة. ذلك مع العلم أن عدد السكان لم يتجاوز 6 ملايين نسمة، وشهد العالم خلال هذه الفترة نقلة نوعية لجهة الاستعانة بالوسائل التكنولوجية الحديثة في عمل المؤسسات. إلا أن «حل هذه الاشكالية الكبيرة لا يكون بالتلطي خلف الإضرابات، وحجز الرواتب بعد تقليل قيمتها، وحجب التقديمات، وتأخير الترقيات»، بحسب ملاعب. «إنما من خلال خطة واضحة، صريحة، شفافة وعملية تقلص العدد الاضافي، تلغي الوظائف الوهمية، وتعيد التوزيع العادل بين الإدارات والوزارات».
لا شبيه لفشل الحكومة الحالية في التعاطي مع القطاع العام إلا من يطلق النار على قدمه. فمعالجة الورم المزمن في إدارات الدولة ومؤسساتها تتم بطريقة إنتقامية غير علمية، تؤدي في نهاية المطاف إلى «كرسحتها». فيما المطلوب معالجة علمية تنطلق من خطة اقتصادية واضحة بعد الاتفاق مع صندوق النقد الدولي لمعالجة أماكن الخلل والمساعدة على خلق فرص عمل للمصروفين من القطاع العام.