Site icon IMLebanon

هكذا اندلعت النيران في المرفأ

كتب فؤاد بزي في “الأخبار”:

بعد مرور سنتين على انفجار العنبر الرقم 12 في مرفأ بيروت، أحد أكبر الانفجارات غير العسكرية على مستوى العالم، لم تقدّم الدولة رواية رسمية تشرح أقلّه ما جرى. حتى اللحظة، لا تصريحات رسمية توضح ما الذي انفجر وما هي المواد التي كانت موجودة داخل العنبر قبل الانفجار؟

لا نبالغ إذ قلنا إنّ هناك عشرات الروايات لما جرى، منها ما يدخل تحت خانة الخيال العلمي مثل الطوربيدات البحرية والعبوة النيوترونية، ومنها ما يتحدّث عن “قنبلة نووية”. وبينهما، من حوّر القصة لأهداف سياسية فرأى في العنبر الرسمي مستودعاً لصواريخ المقاومة قصفه العدو، وفبرك لذلك مقطع فيديو يظهر فيه صاروخ ينزل من الجو، وتبيّن بعد ذلك أن المقطع سيّء الإخراج، فأُخرج من التداول. أمّا الرواية العلمية فهي أبسط من كلّ الخيالات اللبنانية ويمكن بالاستناد إلى المقاطع المنتشرة على الإعلام خلال الحريق وما بعد الانفجار كتابة ما جرى.

تصنّف ألف باء الكيمياء المواد بحسب درجات الأمان وإمكانية التعامل معها، من آمنة وصولاً إلى شديدة الانفجار. كما تصف الكيمياء إمكانية تحويل المواد من آمنة إلى خطرة، وتمنع مجرّد التفكير مثلاً في تخزين مادة آمنة مثل نيترات الأمونيوم جنباً إلى جنب مع وقود وموادّ سائلة قابلة للاشتعال والبارود والمفرقعات. ولكنّ العنبر الرقم 12 كان “تتخيتة” بالنسبة إلى الدولة اللبنانية، وضعت فيها كلّ المواد المصادرة “مكوّمة بعضها فوق البعض الآخر”. لم تُفرز ولم تُوضّب، ويمكن هنا الاستدلال على ذلك بتقارير عسكرية مترافقة تكلّمت عن: موجودات العنبر الذي احتوى كلّ ما يُصنف تحت خانة “قابل للاشتعال”، ملاحظات عسكريين حول أكياس نيترات الأمونيوم، وأخيراً تحذيرات جهاز أمن الدولة قبيل الانفجار بأيام. وعليه كان خطر الوصول إلى مشهد 4 آب مسألة وقت فقط.

في ذلك اليوم، بدأ تسلسل الأحداث بنار اشتعلت داخل العنبر. في بادئ الأمر كان الدخان أبيضَ ومال إلى الرمادي، ما أشار إلى التهاب مواد سريعة الاشتعال مثل الكحول (مركبات كيميائية لا المشروبات الروحية)، الذي كان موجوداً داخل العنبر بحسب التقارير العسكرية. بعدها أخذ لون الدخان بالتحوّل أكثر صوب الرمادي، وأصبح أكثر كثافة، إذاً دخل البارود مرحلة الاشتعال. ومن ثمّ التهبت النيران أكثر وبدأت المفرقعات بإحداث انفجارات صغيرة، وما هي إلا ثوانٍ حتى وقع الانفجار الكبير محدثاً موجة صدمة رُصدت في قبرص وعلى طول السّاحل اللبناني. وخرجت من موقع الانفجار غمامة برتقالية ضخمة سرعان ما تلاشت بفعل الرياح.

لو لم نعلم بالتقارير الواردة من المرفأ قبل 4 آب لكان بإمكاننا استخدام الدليل الأخير، أي الغمامة، لمعرفة طبيعة المواد الموجودة في المرفأ. لونها يؤكّد وجود مركّبات تحتوي على عنصر الآزوت (النيتروجين) بكثافة عالية. فمركبات هذا العنصر بعد تفاعلها مع الأوكسيجين تنتج ما يعرف بـ”أكسيدات الآزوت” ذات ألوان تتدرّج على سلم اللون البرتقالي. ولكنّ معرفتنا بوجود كمية ضخمة من نيترات الأمونيوم في العنبر تمكّننا من إعادة سرد ثانية للحظات ما قبل الانفجار، ومعرفة كيفية تفاعل المواد بعضها مع بعض وصولاً إلى السّاعة السادسة وثماني دقائق، لحظة الانفجار.

نيترات الأمونيوم وحدها مادة بريئة، لا تشتعل ولا تشكل أي خطر ما دام التعامل معها يستند إلى ما علّمتنا إياه التجربة. خلال المئة سنة الماضية تسبّبت هذه المادة بخمسة انفجارات كبيرة، آخرها قبل بيروت، كان انفجار مصنع AZF في فرنسا عام 2001. أما أبرزها فكان انفجار ميناء تكساس سنة 1947، اشتعال النيران في عنبر سفينة تنقل المادة أدّى إلى سلسلة انفجارات قتلت أكثر من 500 شخص في واحدة من أكبر الكوارث الصناعية التي عرفها العالم. وعليه، تراكم التجارب أثبت أنّ نيترات الأمونيوم يجب تخزينه في أماكن جيدة التهوئة، من دون رطوبة، بعيدة عن كلّ أنواع الوقود، ولا يمكن في أيّ حال وضع مواد تحتوي على “بودرة” المعادن بالقرب منها.

وانطلاقاً مما سبق يمكن إعادة سرد الأحداث التي بدأت باشتعال النيران في مواد كلّها قابلة للاشتعال. وبدأت ألسنة اللهب تمتد إلى المواد الأسرع في التفاعل ومنها البارود. مع التهاب النيران ارتفعت الحرارة أكثر وكذلك الضغط المحيط بالمواد. ولكن حتى اللحظة لم يتدخل نيترات الأمونيوم، ويمكن الاستدلال على ذلك بلون الدخان الذي لم يتحوّل إلى اللون البرتقالي قبل الانفجار. من بعدها أخذ البارود بالاشتعال ما دفع بدرجات الحرارة إلى التصاعد، وبسبب طبيعة بناء العنبر (السقف الحديدي والجدران الإسمنتية) تحوّل إلى ما يشبه الفرن الضخم.

هنا يبدأ نيترات الأمونيوم بالدخول في حالة “حرجة” ويتفكك إلى غازات منها الأوكسيجين. مسار الأحداث يدفع باتجاه نقطة “لا عودة”، النيترات يغذي الآن النيران بالأوكسيجين. فتتعاظم الحرارة أكثر مع الضغط، عندها يدخل العنصر الحاسم المسبّب للانفجار، المفرقعات. هذه الأغراض الترفيهية تحتوي بالإضافة إلى البارود، معادن كالحديد والماغنيسيوم والألومنيوم، ما يحوّل نيترات الأمونيوم إلى كتلة قابلة للانفجار. ولم يحتج الأمر إلى أكثر من “صاعق ميكانيكي” أمّنته الانفجارات الصغيرة للمفرقعات لانفجار كتلة ضخمة من نيترات الأمونيوم أدّت إلى ما بات يُعرف بانفجار 4 آب.

مادة نيترات الأمونيوم التي كانت موجودة في المرفأ لم يجرِ التعامل معها في أيّ لحظة على أنّها مادة خطرة، بل على العكس، يمكن القول إنّ القنبلة صُنعت داخل العنبر خلال السنوات الست التي بقيت فيها المواد هناك. من يعرف هذه المادة يدرك أنّ مدّة صلاحيتها لا تتجاوز الستة أشهر في حال أردت استخدامها بشكل آمن. أما بعد ذلك فلا يمكنك أن تعوّل على تركيبة معروفة لقدرتها العالية على امتصاص ما يحيط بها من رطوبة بالإضافة إلى الأبخرة وتحولها إلى كتل صلبة، ما يعيدنا إلى شكل الأكياس المتحجّرة في المرفأ التي رأيناها في الصور المسرّبة ما بعد الانفجار. مادة النيترات في المرفأ تحولت إلى قنبلة موقوتة لحظة وضعها مع كلّ تلك المواد، وكانت تنتظر فقط الصاعق للانفجار. كما أنّه لا داعي للتدخل في مزجها سويةً، فالأبخرة الناتجة عن الوقود والكحول وغيرهما ستتغلغل وحدها داخل النيترات وتحوّله من البراءة إلى الشر كلّه.