Site icon IMLebanon

السياسات العامة “تنفخ” نار التضخم وتلهب معدّلات الفقر

كتب خالد أبو شقرا في “نداء الوطن”:

شهراً بعد آخر تتراجع قدرة المواطنين على الصمود. نار الأسعار تتمدد بسرعة في يباس الأجور وتأكلها بشراهة، في مشهد يعيد إلى الأذهان حرائق ثمانينات القرن المنصرم الاقتصادية. المسؤولون أنفسهم، الذين خبروا المرحلتين، يفتحون «كوات» المناكفات، والدفاع عن المصالح الضيقة، وإهمال الاصلاحات، لتتدفق رياح انهيار القدرة الشرائية، بدلاً من العمل على إطفاء اللهيب بما امتلكوا من أدوات فعالة.

من المتوقع أن يسجل لبنان هذا العام، ثاني أعلى معدل تضخم في العالم بعد السودان، وفقاً لشركة «Fitch Solutions». وهو بذلك يسبق كلّاً من فنزويلا والزيمبابوي وسوريا وإيران… وبقية الدول المأزومة، ويسير بخطوات سريعة نحو التضخم المفرط Hyperinflation، حيث لا تعود المعالجات تنفع، أو أقله تصبح أصعب بما لا يقاس.

مؤشر أسعار المستهلك إلى ارتفاع

وفي سياق متصل يشير تقرير الإحصاء المركزي إلى أن معدل التضخم على صعيد سنوي بلغ في تموز الفائت 168.45 في المئة، فيما وصل الرقم القياسي لاسعار المستهلك في تموز 2022 إلى 1382.22، بعدما كان 514.5 في تموز العام 2021، وذلك انطلاقاً من معدل 100 في العام 2013 المعتبرة السنة الأساس. وقد شهدت أبواب الإنفاق الاثني عشر الاساسية التي تطال مختلف أوجه الانفاق ارتفاعات كبيرة بين تموز 2021 وتموز هذا العام. القفزة الكبيرة كانت في تكاليف المياه والكهرباء والغاز حيث ارتفعت بنسبة 460 في المئة. فيما ارتفعت أسعار النقل بنسبة 353 في المئة، والنفقات الصحية بقيمة 284 في المئة، والمواد الغذائية والمشروبات غير الروحية بنسبة 240 في المئة. التغيير الأقل شهده قطاع التعليم، حيث لم تتجاوز نسبة التغير بين تموز 2021 وتموز 2022 الـ 36.47 في المئة. كما لم تشهد الايجارات القديمة والجديدة المدرجة تحت بند «مسكن، ماء وغاز وكهرباء ومحروقات أخرى» أي تبديل يذكر، حيث لم تتخطّ نسبة التغيير 2.4 في المئة بالنسبة للايجارات القديمة و5.8 في المئة بالنسبة إلى الايجارات الجديدة.

الارقام الحقيقية أعلى

وعلى الرغم من هذه الارتفاعات الكبيرة، فان الارقام الواردة، ولا سيما في ما يتعلق ببند «المواد الغذائية والمشروبات الروحية، لا تعبر بشكل دقيق عن الارتفاعات الحقيقية التي طالت الاسعار»، بحسب الخبير في شؤون الدراسات الإحصائية والاقتصادية د. بشارة حنا. «فنسب الارتفاع تصبح أعلى حكماً في حال تعديل التثقيلات المعتمدة. وللمثال فان التثقيل على باب «المواد الغذائية والمشروبات غير الروحية» ما زال يحتسب على أساس 20 (أي أنه يشكل 20 في المئة من سلة الانفاق. وذلك كما كان الوضع في العام 2013)، فيما قد يكون أصبح يشكل 60 في المئة من هذه السلة في يومنا الحاضر نتيجة تخصيص الجزء الاكبر من الدخل للمأكل والمشرب فقط. وفي المقابل فان التثقيل على باب «المسكن» ما زال يحتسب 28.4 فيما قد تكون نسبته من مجمل الانفاق انخفضت اليوم إلى رقم أدنى بكثير». وعليه يرى حنا أن «كل التثقيلات وطريقة احتساب نسب ارتفاع الاسعار بحاجة إلى تعديلات جوهرية. وفي هذه الحالة ستظهر أكبر مما هي عليه اليوم».

تأثير الدولار الجمركي

أما في ما خص تأثير احتساب الدولار الجمركي على سعر 20 ألف ليرة، فهو «سيؤدي إلى زيادة في الاسعار بين 5 و10 في المئة فقط»، بحسب حنا. و»ليس ما بين 20 و30 في المئة كما يعتبر البعض». حنا ينطلق من أن السلع التي يطالها الدولار الجمركي لم تعد تمثل أكثر من 25 في المئة من سلة الاستهلاك، نظراً لتحول المواطنين إلى استهلاك المواد الغذائية المعفاة من الرسوم، والتي أصبحت تمثل أكثر من 60 في المئة من السلة الاستهلاكية. وبناء على حساب أولى يقول إن «زيادة الدولار الجمركي بنسبة 1300 في المئة لا تعني ارتفاع كل الاسعار بالنسبة نفسها، فالاحتساب يتم على أساس السلعة ونسبة التسعير. فاذا كانت الضريبة على السلع 30 في المئة وسطياً أو حتى 50 في المئة بأكثر السيناريوات تطرفاً، فان نسبة الارتفاع في الاسعار لا تتجاوز 11 في المئة على المؤشر العام للأسعار».

تضخم تصاعدي

في جميع الحالات ترى «فيتش» أن «التضخم سيسير بشكل تصاعدي، سيبلغ 178 في نهاية العام 2022 نتيجة الضغوط التضخمية القوية من تعديل رسوم الاتصالات والموانئ والجمارك، بعدما كان بحدود 155 في المئة في العام الماضي. ومع هذا فان معدل التضخم لا يزال بحسب تقريرها «بعيداً عن ذروته البالغة 741 في المائة في العام 1987».

بالعودة إلى العام 1987 تظهر المعلومات أن الدولار ارتفع بنسبة 423 في المئة، وأصبح الحد الادنى للاجور مقيماً بالدولار يبلغ 18.7 دولاراً فقط، بعدما كان في العام 1982 يعادل حوالى 250 دولاراً. إلا أنه وبنظرة سريعة على الواقع اليوم نرى أن الحد الادنى للاجور الرسمي المحدد بـ 675000 ليرة إضافة إلى الزيادتين بمقدار مليون و325 ألف ليرة، و600 ألف ليرة على التوالي، يعادل 76 دولاراً بحسب سعر صرف السوق الموازية. ومع هذا فقد تراجع الدخل المقيم بالدولار بمقدار 16.8 مرة عما كان عليه في العام 2019 عندما كان يعادل 450 دولاراً، من دون احتساب حتى الاضافات المعطاة مؤخراً. وهذا ما يدل على سرعة الانهيار وإمكانية الوصول إلى الأرقام المحققة في العام 1987 في وقت ليس ببيعد.

سياسات مكافحة التضخم

كل هذه العوامل يجب أن تقابل بـ»سياسات تحد من التضخم، ولا تفاقمه»، بحسب الباحثة واستاذة علم الاقتصاد في الجامعة الاميركية في بيروت د. ليلى داغر. «فمن غير الصحيح في هذا التوقيت بالذات الذي بدأ فيه رفع الدعم عن البنزين أن يتم رفع الدولار الجمركي. حيث من المعروف أن هذين العاملين إذا ما أضيفا على عاملي التضخم الآخرين اللذين نعاني منهما والمتمثلين بالارتفاع العالمي في أسعار مختلف السلع والخدمات والانهيار بقيمة العملة الوطنية، ستتسبب جميعها بزيادة معدلات التضخم محلياً بنسبة كبيرة جدياً». وهذا ما سيؤثر برأيها بشكل كبير على سياسات الحماية الاجتماعية، ويصعّب أكثر محاولات مكافحة الفقر وتأمين الامن الغذائي. فبحسب مشروع «النهوض بالسياسة القائمة على الأدلة في إدارة الأزمات»، يتبين أن أكثرية العائلات قللت كمية الطعام على موائدها واستغنت عن المعاينة الطبية، وألغت التأمينات الصحية الخاصة… وهذا ما يؤكد الارتفاع الكبير في معدلات الفقر الذي تشير اليه مختلف الجهات الدولية، ويتطلب في المقابل سياسات حماية خاصة كأن نعمد إلى رفع كافة الرسوم الجمركية عن كافة السلع الغذائية الاساسية المستوردة من أجل تسهيل وصول المستهليكن اليها بأقل أسعار ممكنة.

التضخم من رقم واحد الذي أثار هلع أكبر اقتصاديات العالم، ودفع بالولايات المتحدة الاميركية إلى اتخاذ إجراءات جذرية لمكافحته، لا يعني شيئاً للمسؤولين اللبنانيين رغم تحوله إلى ثلاثي الارقام. ومن غير المستبعد نتيجة هذا التراخي والاهمال على حد سواء أن نبدأ نشهد نتيجة التبدلات السريعة بسعر الصرف، تغيرات شهرية كبيرة ومن بعدها يومية، لندخل في التضخم الجامح الذي يكلف السيطرة عليه ما لا طاقة للبنان على تحمله.