كتب جهاد إسماعيل في “الأخبار”:
بعدما تعذّر تشكيل الحكومة، حتّى الآن، بسبب تعثّر الاتفاق بين الرئيس المكلّف ورئيس الجمهوريّة وفق ما تنصّ عليه المادة 53 من الدستور، تُثار إشكالية، من قبل الأوساط النيابيّة والقانونيّة، حول إمكانية تعويم الحكومة المستقيلة، عبر مدّها بالثقة في مجلس النواب، كي تُصبح مكتملة الأركان أو الأوصاف الدستوريّة، وتمارس، استطراداً، الصلاحيات الرئاسيّة عملًا بالمادة 62 من الدستور. إلّا أن هناك أسباباً عديدة، في رأينا، تدفعنا إلى دحض هذا الاعتقاد، تتجلّى في النقاط الآتية:
– تنصّ المادة 64 من الدستور، في الجزء الأول من الفقرة الثانيّة، على أن «على الحكومة أن تتقدّم من مجلس النواب ببيانها الوزاري لنيل الثقة في مهلة ثلاثين يوماً من تاريخ صدور مرسوم تشكيلها…».
يُستشفّ من هذا النصّ الدستوري بأن الثقة النيابية مرتبطة بمهلة دستورية، 30 يوماً، تسري من تاريخ تشكيل الحكومة لا من تاريخ استقالتها. والثابت، دستورياً وواقعياً، أن حكومة الرئيس نجيب ميقاتي تشكّلت منذ ما يقارب السنة، وجرى اعتبارها مستقيلة حكماً عملاً بأحكام المادة 69 من الدستور، وتحديداً عند بدء ولاية مجلس النواب. لذلك، القول على خلاف ذلك، يعني، بما لا يقبل الشكّ، إلغاء لنصوص دستوريّة واضحة ولا سيّما المادة 64، في الجزء الثاني من الفقرة الثانية، الّتي تنصّ على التالي: «لا تمارس الحكومة صلاحياتها قبل نيلها الثقة ولا بعد استقالتها أو اعتبارها مستقيلة إلا بالمعنى الضيّق لتصريف الأعمال»، بما يؤكد أن المشرّع الدستوري قد أوجب، مطلقاً، النطاق الضيّق لتصريف الأعمال عند استقالة الحكومة أو اعتبارها مستقيلة، وهذا ما يقطع الطريق على أيّ اجتهاد في تغيير ماهية الحكومة أو شكلها.
– ما يعزّز هذا المنحى من التحليل، هو أن المادة 73 من النظام الداخلي لمجلس النواب تنصّ على أن «تجري مناقشة البيان الوزاري في جلسة تُعقد خلال 48 ساعة على الأقل من جلسة التلاوة ما لم يكن قد وُزّع البيان الوزاري على النواب قبل هذه الجلسة بمهلة مماثلة». تبعاً لهذا النصّ، مشفوعاً بنصّ المادة 64 من الدستور، أصبح نيل الحكومة الثقة من قِبل مجلس النواب إلزامياً خلال مهلة محددة، وانقضاء هذه المهلة يعني فقدان الحكومة حقها في التقدّم بطلب الثقة.
أما الردّ على هذا التحليل بأن هذه المهلة، أساساً، هي مهلة حثّ بطبيعتها لا مهلة إسقاط، فيُرَدّ عليه بالنقاط التالية:
• حثّ المشرّع الدستوري يستقيم في ما أوجب به من أحكام لا بما حظّره أصلاً.
• النص بذاته يقول: «على الحكومة» و«على الحكومة أن تقوم». وهنا الـ«على» موجبة بالنص.
• من الممكن، بحسب دُعاة نظرية «الحثّ»، تجاوز مهلة «الحثّ» ببضعة أيام فقط لا سنة!
• إن حثّ المشرّع، عادةً، وبحسب أصحاب النظرية نفسها، يكون في مشروع «حكومة جديدة» لا في «حكومة مستقيلة» كانت قد استنفدت المهلة.
– عملاً باجتهاد مجلس شورى الدولة، فإنّ الحكم في النظام البرلماني هو حكم مسؤول يخضع في جميع الأعمال لرقابة مجلس النواب، وفي الأعمال الإدارية لرقابة القضاء الإداري (مجلس شورى الدولة)، وإن زوال هذه المسؤولية، باستقالة الحكومة، يعني، بالنتيجة، زوال الرقابة البرلمانية.
– إنّ الاعتقاد القائم على تبرير «تعويم حكومة مستقيلة» بحجّة السوابق، إثر استقالة الرئيس سليم الحصّ عام 1978، واستقالة حكومة الرئيس رشيد كرامي عام 1987، وإن اختلفت ظروفه أو ماهيته، فهو يستند إلى أحكام الدستور اللبناني الصادر عام 1926، أي قبل التعديل الدستوري لعام 1990 الّذي حدّد، بصورة صريحة، حالات استقالة الحكومة أو اعتبارها مستقيلة، بعد أن كان رئيس الجمهورية يملك، إلى جانب ثقة البرلمان من الناحية العمليّة، الحق في إقالتها، ما يعني أن البرلمان، بعد اعتبار حكومة ميقاتي مستقيلة بسبب بدء ولاية مجلس النواب الجديد عملاً بالفقرة «ه» من المادة 69، غير قادر على ممارسة حقّ هو، أصلاً، لا يملكه من جهة، ولا يجد أساسه في نصٍّ دستوري من جهة ثانية، بل على العكس، هو مدعوٌّ، بحسب نصّ المادة 64 من الدستور، إلى منح الثقة لحكومة جديدة صدرت مراسيم تشكيلها. علاوة على أن الفقرة الثالثة من المادة 69 من الدستور تعتبر أن المجلس النيابي، عند استقالة الحكومة أو اعتبارها مستقيلة، «يصبح، حكماً، في دورة انعقاد استثنائية حتّى تأليف الحكومة ونيلها الثقة»، حيث يستفاد من هذا النصّ بأن الثقة مقترنة، بالتلازم، مع تأليف الحكومة عند توافر شروطها على أساس بيان وزاري، لا مع حكومة مستقيلة دستورياً.
بناءً عليه، لا يمكن لحكومة خسرت، أساساً، مسؤوليتها البرلمانية، وتالياً كيانها الدستوري، أن تطلب من المجلس النيابي مدّها بالثقة المفقودة، أصلاً، بحكم الدستور. فسيادة البرلمان لا تعلو على سيادة الدستور، على اعتبار أن الدستور نفسه كان قد دعا الحكومة، كهيئة جماعيّة، لا كوزراء، إلى ممارسة صلاحياتها ولو في الإطار الضيّق، في حين أن رؤساء الحكومات أفرغوا ما يحتويه الدستور من أحكام تجيز، بمنطوق الفقرة الثانيّة من المادة 64، انعقاد حكومة تصريف الأعمال، وعمدوا، عن قصدٍ، إلى الامتناع عن عقد جلسات حكوميّة تتفق مع مقاصد المشرّع الدستوري، وكذلك مع اجتهاد مجلس شورى الدولة الّذي أكّد، في قرارات مختلفة، جواز انعقاد حكومة تصريف الأعمال، وتالياً جواز اتخاذها قرارات تصرفيّة عند الضرورة (حالة حرب، كوارث، أزمات مالية استثنائية، أعمال إدارية يجب إجراؤها في مهل قانونيّة معيّنة…)، ما يبدّد الحاجة إلى هرطقة دستوريّة، هنا أو هناك، من أجل الحفاظ على توازنات سياسيّة لا دستوريّة، ما دام أن حكومة «تصريف الأعمال»، كما سبق أن ذكرنا، تبقى مسؤولة، عن أعمالها الإداريّة، أمام مجلس شورى الدولة نفسه!