كتب جورج شاهين في “الجمهورية”:
لم تحجب «الطحشة الباسيلية» مساء أمس الأول في اتجاه خصومه حجم الصفقة التي أنجزت نهارا. فبعدما تبيّن ان رئيس مجلس النواب نبيه بري من بين المُستهدفين كان نائبه الياس بو صعب ينجز المرحلة الاولى من الصفقة – التسوية معه لإقفال ملف بعض الموقوفين في جريمة تفجير المرفأ قبل نهاية العهد من دون التنبّه الى إمكان ان تنهي مهمة قاضي التحقيق العدلي طارق البيطار بعد تسمية القاضي الرديف الذي سيكلّف المهمة. وهو ما استدعى التوقف عند شكلها وابطالها وأهدافها.
لم تكن المراجع القانونية والقضائية تتوقع ان تشهد أحداث الثلثاء الماضي بما أوحت به من سيناريو اختلط فيه ما هو سياسي وحكومي بما هو قضائي ونيابي وشعبي، وقد توزعت أحداثه بين مجموعة من المقار الرسمية، وتحديداً ما بين قصر بعبدا وعين التينة ووزارة العدل تعبيراً عن صفقة تترجم تسوية أنجزت بين مجموعة من اركان السلطة والحكومة بحثا عن آلية للافراج عن بعض الموقوفين في جريمة تفجير المرفأ بعدما عجز الجميع عن استكمال الخطوات التي بوشرت لتشكيل الهيئة العليا لمحكمة التمييز التي تسمح باستئناف التحقيقات التي يجريها المحقق العدلي البيطار بعد البَت بمجموعة طلبات الرد وكَف اليد المقدمة في أكثر من اتجاه، والتي ادت الى تشابك الخطوات القضائية وتناسلت الى ان انعكست تجميدا مؤقتا لعمل البيطار منذ أشهر.
ومردّ هذه القراءة السياسية والقضائية الى مجموعة الخطوات المفاجئة التي جرت وقائعها منذ مطلع الأسبوع الجاري ما بين هذه المقار الرسمية، والتي ادت الى ما ادت اليه من قرارات صدرت عن مجلس القضاء الاعلى بالموافقة على اقتراح وزير العدل هنري خوري بتعيين محقق عدلي رديف للمحقق الأصيل الذي لا شريك له القاضي البيطار على رغم من أنها لم تكتمل فصولها بعد، خصوصا أنها جاءت غير مسبوقة طالما انها استندت الى تجربة سابقة لا تتطابق وما نعيشه اليوم من وقائع تتصل بهذا الملف.
وقبل تفنيد هذه المعطيات ومؤشراتها لا بد من التذكير بوقائع «الثلثاء القضائي ـ النيابي – الحكومي»، ففي ساعات الدوام الصباحية الأولى وتزامناً مع وصول نائب رئيس مجلس النواب المكلف حل الاشكاليات الدستورية والتشريعية والقضائية العالقة بين قصر بعبدا وعين التينة والسرايا الحكومية، ومنها مرسوم تشكيل الهيئة العليا لمحكمة التمييز، وصل الى محيط قصر العدل وفد شعبي من اهالي الموقوفين في جريمة تفجير المرفأ بهدف المطالبة بالإسراع في الخطوات المؤدية الى الافراج عن أقاربهم الموقوفين منذ أكثر من عامين وشهر تقريبا. وما هي الا لحظات قليلة حتى انضمّ الى الاهالي وفد من نواب «التيار الوطني الحر» يضم النواب: شربل مارون، جيمي جبور، ندى بستاني، جورج عطاالله، سامر توم وسيزار أبي خليل الذين توجهوا على الفور الى مكتب رئيس مجلس القضاء الاعلى القاضي سهيل عبود للبحث معه في مصير الموقوفين، ولا سيما منهم المدير العام للجمارك بدري ضاهر، على خلفية تحميل عبود مسؤولية عرقلة الخطوات التي يمكن ان تؤدي الى اطلاق سراحه ومعه مجموعة من الموقوفين الآخرين.
وعلى خلفية المشهد الذي تكوّن ما بين مستديرة 7 آب وقصر العدل، والذي فشل في تقديم نموذج لحلقة من «تلفزيون الواقع»، ظهر جَلياً انها كانت خطوات مقررة سلفا ولكنها جاءت وفق سيناريو عجزَ مُعدّوه عن تقديم حلقة منطقية تسمح بالربط بين كل ما جرى في ساعات قليلة بعد خطوات لم يكن قد اعلن عنها وتركت لتكون مفاجأة ساعات النهار. وبَدا ان كل هذا الحراك الشعبي والنيابي الذي جرى حصره بنواب «التيار الوطني الحر» والمحازبين كان يهدف الى الضغط على مجلس القضاء الاعلى للقبول بطرح كان بقي سرياً حتى بلغ الحراك ذروته قرب قصر العدل، عندما كشف عن كتاب تقدّم به وزير العدل الى المجلس الاعلى للقضاء طالباً منه من خارج السياق القضائي والعدلي تعيين «قاضي تحقيق رديف» للبيطار مهمته البت بطلبات اخلاء سبيل بعض الموقوفين طالما انّ يد البيطار مكفوفة وممنوعة من الحراك.
وقبل البحث في قانونية الاقتراح الذي قدمه وزير العدل، فقد ترك ردّات فعل مُزلزلة لدى الأوساط القضائية المحايدة، لكن عندما أخضِع للقراءة السياسية تبيّن أنه يمكن الركون اليه على خلفيات انسانية لا قضائية ولا قانونية. وعند تبرير اسبابه الموجبة فُهِم على انه يهدف الى تجاوز الفشل في عملية تشكيل الهيئة العليا لمحكمة التمييز والعقبات التي حالت دون هذه الخطوة القضائية، والتي تكاد تكون الوحيدة التي لا تخضع لأي نقاش قانوني او قضائي او عدلي تسمح للقاضي البيطار باستئناف التحقيقات في جريمة المرفأ. وقد حيكت من خلال الوساطة التي قادها بوصعب بين بعبدا وعين التينة والسرايا الكبير، من اجل البت بمصير بعض الموقوفين تحديدا من دون النظر في أي معطيات اخرى تتصل بالتحقيق الجاري في الجريمة سواء كانت تسمح بإطلاق اي منهم او جميعهم.
وعليه، فإنّ ما لفت المراجع القضائية المحايدة ان ربطها بخطوة مشابهة عاشها لبنان في اثناء التحقيق العدلي بجريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2006 شكّل في مضمونه فضيحة في حد ذاتها تحكي عن نفسها قضائيا وقانونيا. والدليل انه وعندما تم تعيين القاضي جهاد الوادي محققا عدليا مؤقتا بديلاً من القاضي الاصيل الياس عيد للتحقيق في تلك الجريمة كانت مقبولة لجهة وجوده خارج لبنان، وهو مُعطى لا يتوافق ولا يتطابق مع ما يجري في الأمس في جريمة المرفأ، فالقاضي الاصيل موجود بكل حضوره في لبنان وهو لا يزال يتمتع بكل الصلاحيات العدلية المُعطاة له على رغم من انّ أطراف صفقة الأمس لا يُجمعون على قضية سوى على إبعاده عنها، وقد ثبت عجزهم أكثر من مرة حتى خطوة الامس. وان وجد شَبه بين تجربتي بديل عيد والبيطار انّ مُعِدّي العمليتين كانوا يريدون ابعادهما عن الملف. وهو ما حصل لاحقاً وربما قد يتكرر هذه المرة. فالقاضي عيد الذي رفض ما جرى في غيابه اعتذر عن المهمة وعيّنَ القاضي صقر صقر يومها بديلاً منه.
واضافت المراجع القضائية انّ خطوة الامس، إن اكتملت، لم تكن في حاجة الى ما شهده محيط قصر العدل الثلثاء الماضي من مواقف تدعو الى الخروج عن القوانين والأنظمة القضائية، ذلك ان المتظاهرين ومعهم النواب ممّن يُلمّون بالشأن القضائي تجاهلوا في نداءاتهم وشعاراتهم التي رفعت الاسباب الحقيقية التي أدت الى تجميد البحث في اطلاق سراح ايّ من الموقوفين او جميعهم في ظل تكبيل ايدي المحقق العدلي البيطار منذ اشهر عدة. وهو واقع كان نتاجاً للكباش القائم بين بعبدا وعين التينة الذي ادى الى تعطيل تشكيل الهيئة العليا التي يمكن عند تشكيلها إطلاق يد المحقق العدلي من عدمه. فقرار وزير المال يوسف الخليل بعدم توقيع مرسوم تشكيل الهيئة العليا غير مسبوق وشكّل تجاوزا لحد السلطة وكل القوانين المعمول بها بطريقة غير مسبوقة. وإن أفاضَ الباحثون عن خلفيات الخطوة فسيتّضِح لهم أنّ من بين المُزمع الافراج عنهم من يعني رئيس الحكومة، كما بقية أطراف الصفقة التي سمحت بخطوة من هذا النوع ليتم الإفراج عن موقوفيهم، ويطوى التحقيق في جريمة المرفأ ومعه الحقيقة المرة حول ما حصل ولتسقط كل الاحلام المرتبطة بالوصول الى شيء منها.