كتب شارل جبور في “الجمهورية”:
أبسط تعريف لاتفاق الطائف هو كالآتي: اتفاق لبناني- لبناني لإنهاء الحرب الأهلية، تمّ برعاية دولية وعربية وتحديداً سعودية، وبتنفيذ سوري في مرحلة أولى، وإيراني في مرحلة ثانية ما زالت مستمرة.
لم تتمكّن الإرادة اللبنانية التي أنهت الحرب الأهلية من ترجمة ما اتفقّت عليه في «وثيقة الوفاق الوطني»، هذه الوثيقة التي ظلّت حبراً على ورق وولدت ميتة منذ لحظة صدورها لثلاثة أسباب أساسية:
السبب الأول، لأنّ العماد ميشال عون الذي كسر ستاتيكو «شرقية-غربية» من خلال حرب التحرير التي أدّت إلى اتفاق الطائف، رفض الالتزام بما صدر عن هذا الاتفاق الذي ولد بسببه، فيما لو سلّم بالسلطة التي انبثقت عنه لكان سلك الاتفاق مساراً مختلفاً، لأنّ هناك «مومنتم» لكل شيء، وهو يتحمّل المسؤولية الأولى في تفويت لحظة الاهتمام الدولية والعربية بلبنان، كما يتحمّل مسؤولية كسر التوازن بين الشرقية والغربية، من خلال إعلانه حرب الإلغاء التي دمرّت المنطقة الحرة وأسقطت التوازن بين المحورين.
السبب الثاني، لأنّ الدول الغربية والعربية التي انشغلت بملفات أخرى وفي طليعتها حرب الخليج الثانية على أثر اجتياح الرئيس صدام حسين للكويت، لم تتشدّد بتنفيذ اتفاق الطائف، وتحديداً لناحية منع النظام السوري من وضع يده على لبنان، إنما استمرار الحرب التي قادها العماد عون بعد هذا الاتفاق، دفع هذه الدول إلى اليأس من الوضع اللبناني وتركه بيد الرئيس حافظ الأسد.
السبب الثالث، لأنّ القوى اللبنانية التي شاركت في اتفاق الطائف إما تخلّت عن التزاماتها عندما وجدت انّ الفرصة سانحة لتحقِّق في السياسة ما عجزت عن تحقيقه في الحرب، وإما خضعت لإرادة حليفها السوري الذي يُمسك أساسا بقرارها.
فصحيح انّ الحرب الأهلية كانت بين اللبنانيين بفعل انقسامهم حول الرؤية لدور لبنان من جهة، وحيال الشراكة في السلطة من جهة أخرى، وقد عالج اتفاق الطائف نهائية لبنان وعروبته والمساواة في المشاركة، إلّا انّ دور النظام السوري في لبنان أكبر من طاقة اللبنانيين على معالجته، فضلاً عن انقسامهم بين من يريد سيادة لبنان، وبين من يعتبر انّ الجيش السوري موجود في بلده الثاني لبنان. وبالتالي، كان من مسؤولية المجتمعين الدولي والعربي كفّ يدّ هذا النظام ووضعه عند حدّه ومنعه من التدخُّل في الشؤون اللبنانية، وهذا ما لم يحصل، بل تُرك الشعب اللبناني لقدره ومصيره أعزل أمام نظام أطبق سيطرته على بلدهم.
وإذا كان من مسؤولية اللبنانيين إنهاء الانقسام بين بعضهم والسهر على تنفيذ اتفاق الطائف بشقّه المحلي، إلّا انّه من مسؤولية عواصم القرار العربية والغربية السهر على تنفيذه بشقه الإقليمي بإخراج الجيش السوري من لبنان ومنع نظام الأسد من التدخُّل في الشأن اللبناني، الأمر الذي لم يحصل، وبالتالي الفشل في تنفيذ الطائف ليس ماركة لبنانية مسجّلة باسم اللبنانيين حصراً، إنما هو فشل مزدوج: لبناني وعربي-غربي.
ولو تركت القوى السياسية اللبنانية على همّتها لكانت، ربما، توصلّت إلى تنفيذ اتفاق الطائف، ولكن كيف يمكن تحميل اللبنانيين مسؤولية التلكؤ في تنفيذ اتفاق يمنع النظام السوري تنفيذه؟ فالمأساة التي يعيشها لبنان هي مسؤولية مشتركة: مسؤولية اللبنانيين وعجزهم عن بناء وطن ودولة، وانقسامهم الحالي أسوأ من زمن الحرب وما سبقها، لأنّ «حزب الله» لا يبحث عن صلاحيات ونفوذ فقط، إنما يريد تحويل الجمهورية اللبنانية إلى جمهورية خمينية. والمسؤولية الثانية هي دولية وعربية بالتخلّي عن لبنان لمصلحة النظام السوري في المرحلة الأولى، ومصلحة النظام الإيراني في المرحلة الحالية.
فباستطاعة اللبنانيين تدبُّر أمورهم إن كان في إبرام التسويات، او في الصراع السياسي وغيره، والذي يُبقي التوازن الداخلي قائماً، ولكن ليس بمقدور قسم من اللبنانيين أن يواجه النظام السوري وأطماعه بلبنان، ولا ان يواجه النظام الإيراني وثورته التشييعية، بل من مسؤولية مجلس الأمن حماية سيادة الدول الأعضاء في المجلس.
فليس مطلوباً من عواصم القرار التوسُّط بين اللبنانيين لإنهاء فراغ حكومي أو رئاسي، او الضغط لإجراء الاستحقاقات الدستورية في أوقاتها، أو الوصول إلى تسوية سياسية، فهذا ليس من شأنهم ولا اختصاصهم ولا جزءاً من دورهم، إنما جلّ ما هو مطلوب منهم ويتلكؤون بتنفيذه هو منع التدخُّل الخارجي بالشؤون اللبنانية، والمقصود في هذا الزمن إيران.
فلو تحمّل المجتمع الدولي مسؤولياته في الضغط لإخراج الجيش السوري منذ مطلع تسعينات القرن الماضي لما تُرك الشعب اللبناني لقدره، ولما تحولّت الحرب الساخنة إلى حرب باردة، ولما استمر لبنان ساحة مستباحة وصندوق بريد، ولو تحمّل هذا المجتمع مسؤولياته في منع إيران من التدخُّل في الشأن اللبناني، وقام بنشر قوات دولية على الحدود اللبنانية – السورية وبحراً وجواً منعاً لإدخال السلاح لـ»حزب الله»، لكان أصبح الأخير في حُكم الساقط عسكرياً واضطر إلى القبول باتفاق الطائف.
ولكن لا حياة لمن تنادي دولياً، وقد تحول المجتمع الدولي إلى واعظ للبنانيين بضرورة إنهاء الفراغات وإتمام الاستحقاقات الدستورية في مواعيدها، وكأنّ الأزمة اللبنانية تُحلّ مجرّد انتخاب رئيس للجمهورية وتأليف حكومة، فيما لا حلّ لهذه الأزمة قبل إنهاء الدور الإيراني المزعزع للاستقرار في الشرق الأوسط، والدور الوحيد المطلوب من المجتمع الدولي «تزنير» لبنان بزنار دولي بانتظار معالجة الدور الإيراني، وفي حال كان هذا المجتمع عاجزاً عن ذلك، فليكفّ عن الوعظ والتنظير وتقديم الدروس في كيفية تطبيق الدستور وغيره، وليخرج من تخاذله دفاعاً عن شعب له حقّ بالحياة.
فعلى كل فريق ان يقوم بالدور المطلوب منه، وليس ان يأخذ دور غيره من أجل ان يُغطي فشله وتقاعسه. والمقصود انّه على المجتمع الدولي ان يتكفّل بإيران حصراً، وغير مطلوب منه إطلاقاً تقريب وجهات نظر اللبنانيين، فيما الشعب اللبناني يتكفّل في بعضه البعض، ويتكفّل تحديداً في سلاح «حزب الله» ودوره. ولكن هناك من يطالب اللبنانيين بحلّ أزمات دستورية، فيما البلد يقبع تحت الاحتلال الإيراني.
وكل مشكلة «حزب الله»، التي بدأت لبنانية وتحولّت عربية ودولية، كان بالإمكان حلّها منذ العام 1990 لو تحمّل المجتمع الدولي مسؤولياته بتنفيذ اتفاق الطائف ومنع الحزب من ان يحتفظ بسلاحه بحجة وبدعة المقاومة، ومعلوم انّ دور الحزب توسّع تحت نظر هذا المجتمع، كما انّ النظام السوري حكم لبنان بغض نظر دولي، وانتقل الحكم من دمشق إلى طهران من دون اي ردّ فعل دولي عملي.
فالوضع في زمن الحرب، على رغم ويلاتها ومساوئها كان أفضل بكثير من الوضع الذي نشأ بعدها، لأنّه في زمن الحرب كانت كل فئة تمارس قناعاتها وأفكارها ومبادئها بكل حرّية، فيما بعد هذه الحرب فرضت فئة أجندتها وقناعاتها ومشروعها على الفئات الأخرى بقوة الأمر الواقع، وهذا الأمر ليس مردّه لغلبة فريق لبناني على آخر، إنما سببه وضع يد النظام السوري على لبنان في مرحلة أولى ومن ثمّ النظام الإيراني، وهذه المسؤولية دولية بامتياز لا لبنانية، لأنّ من مسؤولية عواصم القرار ان تمنع الدول الكبرى من وضع يدها على الدول الصغرى.
فاتفاق الطائف الذي هو حصيلة نقاشات وحوارات ومفاوضات لبنانية – لبنانية وكُتِب بحبر لبناني، نُفِّذ بعصا سورية في مرحلة أولى وإيرانية في مرحلة ثانية، وبالتالي هذا الاتفاق لم يشقّ طريقه يوماً إلى التنفيذ، وليس مهماً اليوم وبعد مرور أكثر من 33 سنة على إقراره المطالبة بلبننته، لأنّه لن يُلبنن، وهذه المطالبات لم تعد ذات جدوى في ظلّ الإطباق الإيراني على القرار اللبناني. إنما المطلوب من المجتمع الدولي، في حال أراد مساعدة اللبنانيين، ان يمنع إيران عملياً من التدخّل في الشؤون اللبنانية، أي ان يقطع جسر الإمداد بين طهران وبيروت، والباقي يتكفّله اللبنانيون.