كتب طارق ترشيشي في “الجمهورية”:
باعتراف الراسخين في علم السياسة اللبنانية انّ النزاع على الاستحقاق الرئاسي ومن يكون رئيس الجمهورية لا يعدو اكثر من ملهاة تحجب أزمة النظام العميقة والعقيمة التي يعيشها البلد ولم تحلّها صيغة 1943 اصلًا ولا حلّتها «وثيقة الوفاق الوطني» المعروفة بـ«اتفاق الطائف» منذ العام 1989 وحتى اليوم.
فرئيس الجمهورية بموجب الدستور المنبثق من «اتفاق الطائف» لم يعد الآمر الناهي في السلطة التنفيذية كما كان قبله، وإنما بات «رئيس الدولة ورمز وحدة الوطن» و«القائد الأعلى للقوات المسلحة» التي تخضع لسلطة مجلس الوزراء الذي بات دستوريًا السلطة التنفيذية الجامعة، أي سلطة الشراكة الوطنية الجامعة في إدارة كل شؤون الدولة، وبمعنى آخر، صار رئيس الجمهورية بصفته الوطنية الجامعة هو الحَكَم (بفتح الحاء والكاف) بين السلطات وأمام الشعب، وليس طرفاً في أي سلطة، ما ينبغي ان يفرض على المعنيين بالاستحقاق الرئاسي ان يؤمّنوا الفرص لانتخاب شخصية من هذا النوع الحَكَمي وليست شخصية حزبية او منحازة إلى أي فريق وحتى لطائفة. وهنا يُخطئ كثيرون عندما يذهبون إلى اعتبار رئيس الجمهورية رئيساً مارونياً او مسيحياً، وكأنّه «كوتة» للمسيحيين. والخطأ نفسه يحصل عند اعتبار رئيس المجلس النيابي رئيساً شيعياً، ورئيس مجلس الوزراء رئيساً سنّياً. في حين انّ هذه المواقع الثلاثة على اختلاف صلاحياتها، هي مواقع وطنية لا طائفية او مذهبية، وإن كان العِرف (والعِرف في لبنان اقوى من النص) وزّعها على الطوائف الكبرى الثلاث المارونية والشيعية والسنّية، ولكن هذا العِرف لا ينبغي ان يسيله البعض بجعل هذه الرئاسات الثلاث اقطاعات طائفية.
الحل لأزمة النظام، كما يراه الراسخون في علم السياسة اللبنانية، ليس بمن يكون رئيس الجمهورية او رئيس المجلس ورئيس الحكومة، وإنما هو في إرساء نظام الشراكة الوطنية الحقيقية في القرار وفق ما ينص عليه «اتفاق الطائف»، بحيث لا يشعر أي فريق لبناني بأي غبن او إجحاف او تجاهل في تحمّل مسؤولية مع الآخرين عن نهوض البلاد وتطورها.
فماذا ينفع رئيس الجمهورية، أي كان، إذا تولّى الرئاسة في بلد تتآكله الأزمات والانقسامات الطائفية والمذهبية والسياسية التي تعطّل عمل كل مؤسساته او تحوّلها إقطاعات موزعة على الطوائف والقوى السياسية، وتجيّرها لخدمة مصالحها، فيما ينبغي ان تكون في خدمة جميع اللبنانيين على اختلاف مشاربهم وانتماءاتهم الطائفية والسياسية.
ولذلك، فإنّ العلّة كانت وما زالت في النظام وليس في الرئيس، وهذا ما ينبغي الالتفات اليه والعمل على تطويره في اتجاه إقامة الدولة المدنية التي لن تقوم الّا بتنفيذ ما نصّت عليه المادة 95 من الدستور «الطائفي» (نسبة الى اتفاق الطائف) لجهة إلغاء الطائفية السياسية عبر تطبيق النصوص وإزالتها من النفوس عبر الممارسة غير الطائفية في تحمّل المسؤوليات. فرئيس الجمهورية ليس هو الحاكم بعد دستور الطائف، وانما المؤسسات. ولكن هيمنة هذا الفريق او ذاك على هذه المؤسسات هو الذي يمنع تطور البلاد نحو الافضل، ويبقيها قابعة في وحول النزاعات الطائفية والسياسية، علماً انّ الإصلاح السياسي المطلوب يستحيل ان يتحقق إن لم يسبقه الإصلاح الديني بإعادة توجيه الاديان إلى دورها الحقيقي في حياة الشعوب، وهو نشر ثقافة الانسانية القائمة على الرحمة والمحبة والحوار والتسامح والتعاون بين البشر، إذ ما من دين سماوي يأمر بغير ذلك او يتحول خادماً لأهل السياسة والاحزاب والحكام.
كثيرون يقولون انّ الطائفية هي علّة لبنان ماضياً وحاضراً، ولكنهم يمارسونها في ادائهم. وان ينبري البعض إلى توصيف الرئاسات الثلاث عندنا بأوصاف طائفية، مع انّ لا نص دستورياً يقضي بحصر رئاسة او موقع اداري بطائفة معينة، وعندما قال «اتفاق الطائف» بالمداورة بين الطوائف في توزيع وظائف الفئة الاولى في الدولة، بحيث لا تكون اي وظيفة حكراً على طائفة بعينها، انما جعل من هذا الامر أحد الركائز للانطلاق الى إلغاء الطائفية. ويعتقد البعض انّ اعتماد المداورة في توزيع الرئاسات الثلاث ربما يكون اول هذه الركائز التي يُبنى عليها لإلغاء الطائفية من النصوص والنفوس في آن معًا، وبالتالي تذليل عقد الخوف هنا والغبن هناك، فيما القاصي والداني يعلم انّ احدا لا يمكنه الغاء الآخر في هذا البلد حتى ولو كان من الاقليات.
ولذلك، يعتقد كثيرون من المخضرمين في السياسة، انّ أهمية الاستحقاق الرئاسي لا تكمن في ماهية الشخصية التي ستتبوأ سدّة رئاسة الجمهورية، وانما في مدى استعداد الجميع لتحمّل المسؤولية لإخراج البلاد من انهياراتها المتعددة، عبر تركيب سلطة مدركة للمخاطر الحقيقية التي تهدّد وجود الكيان اللبناني، يرعاها رئيس جمهورية او رئيس دولة للجميع وليس لفريق بعينه، يلعب دور الحَكَم الفعلي والراعي الصالح لجميع المؤسسات. وإذا كانت المواقف السياسية تدلّ إلى الآن انّ هناك استحالة في الاتفاق على رئيس جديد سواء بناءً على «كلمة سر» خارجية او داخلية (إذا وجدت)، فإنّ الفراغ الذي ستدخل فيه البلاد سيكون طويلًا جدًا هذه المرة وسيفتح الباب في النهاية لصيرورة البلد إلى مؤتمر حوار وطني جديد البعض يسميه «طائف 2»، بدأ سياسيون يتندرون ويتساءلون عن الدولة او الجهة التي سترعاه، لأنّه في ظل النزاع السياسي الداخلي السائد يستحيل ان ينعقد على ارض لبنان حتى بوجود رعاية خارجية له. ولذلك يرى البعض انّ الأنظار بدأت تتجّه الى المملكة العربية السعودية ومصر.
«الطائفيون» (نسبة الى اتفاق الطائف) يحبذون ان ترعى السعودية هذا المؤتمر اذا فرضته الاوضاع، في اعتبار انّها مكلّفة عربياً رعاية تنفيذ هذا الاتفاق منذ اقراره عام 1989 على اراضيها في مدينة الطائف، وانّ هذه الرعاية التي آلت اليها وحدها (بناءً على رغبة شريكتيها الجزائر والمغرب في اللجنة الثلاثية العربية) تعطيها المبادرة والاولوية لإعادة جمع الافرقاء اللبنانيين في مؤتمر تكون الغاية منه تطوير «اتفاق الطائف» إلى الامام وليس بالعودة للوراء، مع الأخذ في الاعتبار معالجة ما ظهر فيه من ثغرات عند التطبيق منذ العام 1989 وحتى اليوم، علماً انّ هذا التطبيق لم يُستكمل بعد، لا في اقرار قانون الانتخاب الفعلي الذي يعتمد كلياً على النظام النسبي، ولا في تنفيذ اللامركزية الادارية الموسعة والانماء المتوازن، ولا في الغاء الطائفية السياسية (المادة 95 من الدستور) ولا في إنشاء مجلس الشيوخ الذي تتمثل فيه جميع العائلات الروحية اللبنانية وتنحصر صلاحياته في القضايا المصيرية.
في حين يحبذ فريق آخر ان تتولّى مصر رعاية هذا المؤتمر، لاعتقاده انّ السعودية قد لا تكون في وارد المبادرة إلى هذا الامر في ظل الازمات الاقليمية السائدة، التي جعلتها على خصومة مع بعض القوى السياسية اللبنانية، فيما مصر هي على تواصل عبر بعثتها الديبلوماسية في لبنان مع جميع القوى السياسية.
الّا انّ البعض يعتقد انّه من السابق لأوانه الخوض في هذا الموضوع، في انتظار ما سيؤول اليه مصير انتخابات رئاسة الجمهورية إنجازاً او فراغاً، وكذلك ما ستؤول اليه المفاوضات الجارية على اكثر من مستوى، إذ في حال انتهت هذه المفاوضات إلى خواتيمها المرجوة فإنّ ما هو مرفوض اليوم يغدو مقبولاً غداً، وعندها سيبني المعنيون على الشيء مقتضاه.