كتب جوني منير في “الجمهورية”:
كان متوقعاً ان تتدحرج الاوضاع بدءاً من شهر ايلول، لكن هشاشة الوضع الذي أصاب المجتمعات اللبنانية على اختلاف تنوعها نتيجة الانهيارات المتلاحقة على مختلف الصعد خلال السنوات الثلاث الاخيرة، جعلت الساحة اللبنانية قريبة جداً من انفجار شعبي لا يعود بالإمكان السيطرة عليه.
والتدحرج سيكون اسرع بكثير مما يظنه البعض، والفوضى العارمة قد لا تنتظر الدخول في مرحلة الشغور الرئاسي، بل قد يسبقها بدء مرحلة الشغور الرئاسي.
لذلك، وطالما انّ زمن الحلول لم يحن بعد، كان لا بدّ من تحرّك سريع على مستويين: الاول حكومي والثاني حول ترسيم الحدود البحرية.
واللافت انّ طرفي الصراع في لبنان، اي واشنطن و»حزب الله»، تولّى كل واحد منهما مهمّة منع الانزلاق باتجاه الفوضى العارمة، وهنا تكمن المفارقة الغريبة. فواشنطن التي سعت وتسعى لشدّ قبضتها على «حزب الله» من دون الالتفات إلى الاضرار الهائلة التي تصيب ركائز الدولة اللبنانية، بقيت حريصة على عدم تجاوز الأزمات نقطة اللاعودة. و»حزب الله» الذي عزز حضوره خلال المراحل الماضية، مستفيداً من حالات الفوضى التي كانت تمرّ فيها الساحة اللبنانية، بدا حريصاً بدوره على عدم ترك الامور تنزلق في اتجاهات غير محسوبة، انسجاماً مع الحسابات الاقليمية المستجدة والتحولات الكبيرة التي تحصل في الشرق الاوسط. فكان لافتاً ان يجد الرئيس الاميركي جو بايدن الوقت الكافي ليتدخّل مباشرة لدى رئيس الحكومة الاسرائيلية يائير لابيد الغارق في انتخابات صعبة، ويضغط عليه لإيجاد حل قريب لملف الترسيم البحري مع لبنان.
وفي المقابل، أثمرت جهود «حزب الله» لدى رئيس الجمهورية ميشال عون لدفعه لتليين موقفه والتراجع عن مطالبه الحكومية، لا سيما حول إضافة 6 وزراء دولة من السياسيين، والقبول بالصيغة الحالية مع تعديلات محدودة يطال احدها وزير المهجرين. لكن الرئيس عون قد يكون يأمل بمكسبين في مقابل تراجعه عن شروطه وفتح الطريق امام منح الحكومة الثقة النيابية من جديد.
المكسب الاول، وهو تتويج نهاية عهده بإنجاز الترسيم البحري، بعد ان ركّزت الهجمات السياسية عليه من اخصامه بأنّ عهده كان خالي الوفاض من اي انجاز في مقابل انهيارات بالجملة وتحلّل مؤسسات الدولة. والمكسب الثاني وهو ما يأمله، بأن يستطيع الاستعانة بـ»حزب الله» لردّ الجميل له ومساعدته في تمرير تعيينات ستصبّ لصالح تعزيز اوضاع رئيس «التيار الوطني» النائب جبران باسيل بعد مغادرته قصر بعبدا.
لذلك توقع الرئيس عون ان تصدر التشكيلة الحكومية يوم الجمعة الماضي بعدما كان سلّم لميقاتي بالتصور الذي اراده. لكن ميقاتي اعاد طلبه بأن يشمل التغيير وزير الاقتصاد إلى جانب وزير المهجرين. ولكن عون لم يكن جاهزاً لتسمية البديل، فتمّ التفاهم لتأجيل الملف الحكومي إلى ما بعد عودته من نيويورك. وكان واضحاً انّ ميقاتي لو اراد إنهاء الملف الحكومي، لكان حصل ذلك خلال لقائه الاخير في قصر بعبدا، لكنه تعمّد التأجيل واستهلاك الوقت لسببين اثنين على ما يبدو:
الاول، لأنّه يريد الموازنة مع الحكومة، إذا لم يكن قبلها فالحكومة الجديدة او المتجددة ستحمل برنامج عمل ملتزماً مع شروط صندوق النقد الدولي، وحيث تُعتبر الموازنة بنداً اساسياً فيه، وبالتالي فإنّ حكومة من دون موازنة ستُعتبر نكسة له، وحيث انّه سيكون المسؤول الاول خلال مرحلة الشغور الرئاسي.
ومن هنا تزامن موعد انعقاد جلسة مجلس النواب من جديد لمناقشة مشروع الموازنة في 26 الشهر، مع صعود ميقاتي إلى قصر بعبدا لإنهاء الملف الحكومي «حتى ولو اضطريت للنوم هنا» وفق تعبيره.
والثاني، وهو استهلاك الوقت بأكبر قدر ممكن، لجعل عمر الحكومة بوجود رئيس الجمهورية قصيراً جداً، لا بل محدوداً، للتخفيف من أعباء المطالب التي سيحملها. فصحيح انّ الحكومة المعدّلة ستحمل البيان الوزاري نفسه، وأنّ النقاش لمنحها الثقة سيكون مختصراً، الّا انّ العدّ العكسي لانتهاء عهد عون سيمنح الحكومة فعلياً فترة ايام معدودة ستكون حافلة بالضغوط على ميقاتي. وثمة سبب اضافي يجعل ميقاتي يتمهل. ففي نيويورك سيُجري سلسلة لقاءات مهمّة على رأسها، لقاؤه بالرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون وآخر بوزير الخارجية الاميركي انطوني بلينكن، ويجري التحضير جيداً لهذين اللقاءين، حيث سيجري إطلاع ميقاتي على لقاء باريس بين الفرنسيين والسعوديين، اضافة الى آخر مستجدات لبنان والمنطقة من الزاوية الاميركية، والأفق الدولي للاستحقاقات التي ينتظرها لبنان.
وهذا الجانب هو الذي يترقبه «حزب الله» ايضاً بكثير من الحذر والحسابات. لذلك هو يقرأ بتأنٍ التطورات حول ملف ترسيم الحدود البحرية، ليس من الناحية التقنية البحتة فقط، بل خصوصاً لناحية المعاني السياسية وترجمتها على ارض الواقع وانعكاسها عليه تحديداً وعلى الاستحقاق الرئاسي.
وخلال إطلالته الاخيرة، قارب امين عام «حزب الله» السيد حسن نصرالله ملف الاستحقاق الرئاسي بشكل عام، ولو انّه دعا للتفاهم حول رئيس جامع. ويبدو انّ نصرالله لن يفتح الملف الرئاسي بشكل مفصّل قبل انتهاء المهلة الدستورية والدخول في مرحلة الشغور الرئاسي.
وليس من الخطأ الاعتقاد بأنّ نصرالله يريد البحث في تسوية سياسية برعاية دولية، تشكّل المدخل الملائم للاتفاق على الرئيس المقبل. وهذه التسوية من المفترض ان تطال جوانب دستورية وسياسية، وتحديداً امنية، وتشكّل المظلة الفعلية للمرحلة المقبلة، خصوصاً انّ المنطقة تشهد تحولات كبيرة، وانّ مرحلة اعادة إنقاذ لبنان اقتصادياً بحاجة إلى رافعة خليجية بقيادة السعودية التي بدورها تحمل لائحة مطالب وتصوراً آخر. و»حزب الله» الذي عمل دائماً خلال الحقبة الماضية على أساس ترابط الساحات، وخصوصاً الساحتين اللبنانية والسورية، لا بدّ انّه يراقب بدقة «الهجمة» التركية باتجاه دمشق والهجوم الاسرائيلي الصاروخي المستمر باتجاه مواقع ايران وحلفائها والتطورات في الجنوب السوري، وهي المساحة التي ركّز اهتمامه باتجاهها.
أضف إلى ذلك «الود» الخليجي تجاه الرئيس السوري من خلال الإمارات صاحبة العلاقة التحالفية مع السعودية، والعلاقة المستجدة والدافئة مع اسرائيل، وايضاً عن الجهة الغربية المقابلة للشاطئ اللبناني، قرار واشنطن بإعادة السماح بتوريد السلاح إلى قبرص التي على ما يبدو ستلعب دوراً محورياً في ملف الغاز.
وفي آخر استطلاعات مؤسسة «الباروميتر العربي» ما يدعو للتوقف والقراءة جيداً. فلقد أجرت المؤسسة الاميركية استطلاعاً شمل 9 بلدان عربية هي العراق، السودان، الاردن، فلسطين، تونس، المغرب، موريتانيا، ليبيا ولبنان، حول شعبية زعماء اقليميين في هذه البلدان. وحظي الرئيس التركي اردوغان بالمرتبة الاولى، فيما تقاسم ولي عهد السعودية محمد بن سلمان والرئيس الاماراتي محمد بن زايد المرتبة الثانية، وحلّ مرشد الثورة الايرانية السيد خامنئي في المرتبة الاخيرة.
أما في لبنان، فجاءت الارقام على الشكل التالي: 39% محمد بن زايد، 34% محمد بن سلمان، 33% اردوغان، 29% بشار الاسد و24% علي خامنئي.
وفي فلسطين جاءت الارقام: 61% اردوغان، 16% علي خامنئي، 13% محمد بن سلمان، 12% محمد بن زايد و 11% بشار الاسد.
هي ارقام تعزز القناعة بوجوب التحرّك بحذر وتأنٍ.