كتب جورج شاهين في “الجمهورية”:
مما لا شك فيه انّ شيئاً من القلق بدأ يغلّف مهمة الوسيط الأميركي عاموس هوكشتاين، فالتأخير غير المفهوم في تسليم اقتراحه الأخير موثّقاً بالحبر على الورق يثير الشك بنيات واشنطن وتل أبيب معا في إتمام عملية الترسيم. فالموقف اللبناني الرسمي يساوي موقف «حزب الله» ان لم يكن اكثر تشددا. والاعتراف به وحيدا يبقى الطريق الأقصر للتفاهم، يعززه سحب الاقتراح بنقل نقطة الـ«B1» للعودة الى الناقورة. فكيف يمكن تفسير هذه المعادلة؟
عبرت عطلة نهاية الأسبوع ولم يأتِ العرض الجديد الذي قدمته إسرائيل لهوكشتاين ومن ضمنه ما يتصل بخط الطفافات الجنوبية المزروعة خارج المنطقة الاقتصادية الخالصة التابعة لها منذ ايار العام 2000، بعدما اكتفى بالاحداثيات الجديدة التي سلّمها قبل تسعة ايام تقريباً الى الجانب اللبناني ويمكن ان تكون قد عدّلت عن سابقاتها التي في حوزة المفاوضين اللبنانيين منذ سنوات شهدت مفاوضات ترسيم الخط البري قبل البحري.
وقالت مصادر مراقبة انّ ما يدفع الى الشك، مردّه الى ارتفاع منسوب التصريحات والبيانات المتبادلة على هامش المفاوضات الجدية بين المسؤولين الاسرائيليين من جهة والامين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله من جهة أخرى، بطريقة قد تؤدي بشكل من الأشكال الى حَرف الأنظار عن تفاصيل المفاوضات وما بلغته الطروحات المتبادلة رسميا بين الطرفين، لمجرد استباق اي جواب ديبلوماسي نهائي بعمل عسكري او ما يمكن ان تؤدي اليه اي «دعسة ناقصة» قد يرتكبها أحد الطرفين.
وكلها ملاحظات تأخذ في الاعتبار المخاوف الناجمة من تأثيرات ما يجري على هامش المناورات الجارية على طول الحدود الجنوبية، وعلى وقع حرب تخوضها اسرائيل لإخراج المطارات السورية الواحد تلو الآخر عن الخدمة أمام حركة الطائرات الإيرانية في اتجاهها والتي تدّعي إسرائيل أنها تنقل الاسلحة من طهران الى سوريا. وسيّان إن كانت بهدف نقلها الى لبنان او الى الداخل السوري في اتجاه المناطق المتاخمة للمواقع الاميركية شرقي نهر الفرات أو منطقة التنف على مثلث الحدود السورية ـ العراقية ـ الاردنية. وقد سبق ان شاركت طائرات اميركية بلا طيار وأخرى حربية في العمليات العسكرية مستهدفة المواقع التي تشغلها المجموعات المدعومة من إيران على المستويات المادية والعسكرية والتقنية.
وانطلاقاً من المؤشرات التي تدل اليها هذه المستجدات، لا يخفي المراقبون قلقهم في ظل الصمت الذي حرص عليه المفاوضون اللبنانيون كما الجانبان الاميركي والاسرائيلي الاكتفاء بتوصيف ما يجري وبثّ أجواء التفاؤل من دون الإشارة الى ما يقود الى هذه الاجواء الايجابية. فلا الجانب التقني اللبناني قال كلمته في الإحداثيات الجديدة وان كانت بالفعل قد خضعت لتعديلات أبعدتها عن تلك السابقة التي رفضها لبنان على مدى عقد ونصف من المفاوضات البرية والبحرية، كما بالنسبة الى الحاجة الى تعديل دستوري ان كانت هذه الاحداثيات تمسّ حدود لبنان الرسمية التي لا يمكن ان تخضع لأي تعديل منذ وضعها عام 1923، وأودعت لدى عصبة الأمم وجرى تثبيتها في اتفاقية الهدنة مع اسرائيل العام 1949.
وما يزيد من نسبة المخاوف لدى المراقبين والخبراء، الحديث الذي ما زال في غرف مقفلة عن إزاحة إسرائيل لخط الطفافات لمسافة كبيرة في اتجاه الشمال وعمق المياه الاقليمية اللبنانية. فالحديث عن تأثيرات الموج في إزاحتها غير علمي وليس دقيقاً ولا يمكن ان ينقلها مهما بلغت قوّته من مكان لآخر الى الحد المرئي. ولذلك، وطالما انّ رأي الفريق التقني في الجيش ما زال ملكاً للمكلفين السياسيين بالمفاوضات، فإنّ التثبت من هذه المعلومات او نفيها أمر سابق لأوانه في انتظار الكلمة الفصل. فكل ما هو ثابت انّ موقف القيادة العسكرية كان وسيبقى في عهدة القيادة السياسية، لن يكون له اي ملاحظات او رأي مُعلن قبل ان تقول هذه القيادة كلمتها وهو امر ثابت لا يحتاج الى التأكيد او النفي كلما برزت الحاجة الى استقصاء رأي وموقف قيادة الجيش والوفد العسكري المفاوض.
على كل حال، وأيّاً كانت المعطيات التي دفعت رئيس الجمهورية العماد ميشال عون الى الاعلان أمام المنسقة الخاصة للأمم المتحدة في لبنان جوانا فرونيسكا امس «انّ المفاوضات لترسيم الحدود البحرية الجنوبية باتت في مراحلها الأخيرة بما يضمن حقوق لبنان في التنقيب عن الغاز والنفط في الحقول المحددة في المنطقة الاقتصادية الخالصة له»، ما زالت غامضة. ولكنّ تأكيده «ان التواصل مع الوسيط الأميركي مستمر حول بعض التفاصيل التقنية المرتبطة بعملية الترسيم»، يعني ان هناك شيئاً لم يعلن عنه بعد.
وإن صدقت هذه المعطيات فانّ هناك حاجة الى التأكيد ان الجانب الاميركي ومن خلفه الاسرائيلي قد سحبا العرض الاخير بما يتعلق بالنقطة «B1» واكتفيا بتأكيد تلبية الشروط اللبنانية. وان كان الامر مجرد آمال وتمنيات ورغبات بالانتهاء من هذا الملف قبل نهاية العهد فإنّ ذلك لن يطول لتثبت صحته. فالوقت كاف للكشف عن الحقائق كاملة، وعندها من المفترض ان تسقط كل المخاوف والهواجس الناجمة من إمكان ان تكون إسرائيل تمرر الوقت في انتظار أمر ما قد يكون له علاقة بنتائج الاتصالات الجارية، لا سيما منها زيارة رئيس أركان الجيش الاسرائيلي أفيف كوخافي المزمعة لباريس بهدف توسيط نظيره الفرنسي ومستشار الأمن القومي للرئيس إيمانويل ماكرون، في شأن ما بلغه الخلاف على ترسيم الحدود البحرية مع لبنان.
وأن صحّت هذه الرواية فإنه من المؤكد أن على إسرائيل إذا ارادت ومعها الوسيط الاميركي نتيجة ايجابية لهذه المفاوضات الكَشف عن ردها على الجانب اللبناني من ضمن قنوات المفاوضات وتجاهل التصريحات والتهديدات المتبادلة مع «حزب الله» والتشديد على احترامها لموقف رئيس الجمهورية الذي يدير المفاوضات ويشرف عليها. فالموقف اللبناني، وإن تساوى مع لهجة «حزب الله» من دون اعتماد خطابه التهديدي، فإنه يبدو أكثر صلابة وتشدداً منه من دون اللجوء الى المسيرات والصواريخ.
وختاماً لا يخفى على اي مفاوض انّ اللغة المعتمدة في العلم الديبلوماسي والسياسة الدولية بين مفاوضين يكتسبان كل مواصفات الشرعيتين الوطنية والدولية يبقى أمضى من اي حوار مع اي طرف آخر مهما كانت قوته وصِفته. وان أرادت اسرائيل إنهاء المفاوضات فيمكنها العودة عن طرح التعديل المقترح للنقطة «B1» والاعتراف بالخط المستقيم للبلوكات اللبنانية الثلاثة وبالفجوة المتعرّجة لـ»حقل قانا» ليجري التوقيع غداً على التفاهم النهائي وطَي الصفحة التي توحي بإمكان القيام بأي عمل عسكري ان صحّ انه لا يريده احد من اهل المنطقة والعالم.