كتب طوني عيسى في “الجمهورية”:
أكثر فأكثر، يوحي المسؤولون في لبنان بأنّ اتفاق الترسيم مع إسرائيل يقترب من الاكتمال. ولكن، حتى اللحظة، لم يوقف الإسرائيليون مناوراتهم للحصول على المزيد أو للتملّص من الالتزامات. فهل سيُتاح لهذا الاتفاق أن يرى النور؟
واضح أنّ هناك اتجاهين متناقضين يتنازعان القوى السياسية وأصحاب القرار في إسرائيل:
– الأول يريد استعجال التوصل إلى اتفاق حول الترسيم وتقاسم الغاز مع لبنان، بأفضل ما يمكن من شروط متوافرة، ما يتيح الإفادة من هذه الثروة في أسرع ما يمكن، أي في ذروة الحاجة الأوروبية إليها، بسبب حرب أوكرانيا والشح في الواردات من روسيا. وهذا هو الاتجاه الذي تقوده حكومة الوسطي يائير لابيد.
– الثاني يبدي حذراً في ما يعتبره تنازلاً للبنان عن أجزاء من الأرض والموارد الطبيعية، تحت وطأة الحاجة الاقتصادية إلى استثمار الغاز والنفط. وهذا هو موقف اليمين، وفي الطليعة الليكود بقيادة بنيامين نتنياهو.
وبدا من المعلومات التي تتداولها وسائل الإعلام الإسرائيلية، أنّ لابيد يخشى أن يؤدي إبرام الاتفاق على ترسيم الحدود وتقاسم الغاز مع لبنان إلى انعكاسات سلبية عليه في الانتخابات التشريعية المقرّرة في أول تشرين الثاني، وأنّه لذلك يفكر في تظهير الاتفاق، في الداخل الإسرائيلي، وكأنّه عملية ترسيم موقت لمواقع الحدود البحرية، أشبه بنقاط الخط الأزرق براً.
فهو يخشى أن يلجأ الليكود إلى حملة تتهمه بالخيانة، أي بالتفريط بالأرض وموارد الغاز والتخلّي عنها لطرف آخر، متجاوزاً ما يحق له من صلاحيات. ثم يدفع باتجاه المطالبة باستفتاء شعبي حول هذا الاتفاق، ما قد يؤدي إلى نسفه.
لذلك، وفي الكلام الذي تتداوله وسائل الإعلام الإسرائيلية، قد يعمد لابيد إلى «تهريب» الاتفاق تحت عنوان أنّه اتفاق ترسيم موقت وإجرائي، وهو لا يرتدي الطابع النهائي.
وتشير استطلاعات الرأي الأخيرة إلى تقارب دقيق في الأصوات التي سيحصل عليها كل من نتنياهو ولابيد، ويليهما بيني غانتس. لكن التوقعات تشير إلى أنّ الانتخابات المقبلة لن تنهي المأزق السياسي، لأنّ الائتلافات الممكن تركيبها لن تتمكن من الحسم في عملية تشكيل الحكومة.
ويخشى لابيد أن يقوم بأي خطوة تنعكس سلباً على معركته، خصوصاً أنّ الحملات الانتخابية المتلفزة تبدأ رسميا في 18 تشرين الأول المقبل.
إذا أصرّ لابيد على إعطاء اتفاق الترسيم مع لبنان صيغة الموقت، لا صيغة الاتفاق النهائي على تثبيت الحقوق في الأرض والمياه والموارد الغازية، فستكون للأمر تأثيراته المباشرة على صلابة الاتفاق وديمومته ومدى التزام إسرائيل به.
وليس في إمكان الجانب اللبناني أن يبني استراتيجيته في هذا الملف الخطير على افتراضات موقتة، لا يعرف متى ينقلب عليها الجانب الإسرائيلي، مع الإشارة إلى أنّ المحللين السياسيين لا يتوقعون أن تتمكن الانتخابات التشريعية المقبلة، وهي الخامسة خلال 4 سنوات، من حلّ الأزمة السياسية. ويعتقدون أنّ ذلك سيفرض إجراء انتخابات سادسة. وهذا يمكن أن يجعل الاتفاق المنتظر في وضعية مهتزة.
وفي أي حال، ليس لبنان معنياً بالصراع السياسي الداخلي في إسرائيل حول هذه المسألة، خصوصاً أنّ من غير المستبعد أن تقوم القوى السياسية في إسرائيل بمناورات في ملف الترسيم والغاز، يراد منها ابتزاز لبنان للحصول على مكاسب إضافية أو التنصل من الالتزامات.
فالطرح الإسرائيلي الذي نقله الوسيط الأميركي عاموس هوكشتاين في زيارته الأخيرة لبيروت كان يقضي باعتماد منطقة صغيرة جداً، لا تتجاوز مساحتها الـ5 كيلومترات مربعة، حدودها «خط العوامات»، كمنطقة عازلة، بذريعة أنّها مقابلة لمنشآت سياحية إسرائيلية. ويتمّ التداول بأنّ الإسرائيليين تعهّدوا بالاعتراف للبنان بأنّ هذه المساحة تدخل في منطقة حقوقه البحرية، شرط ألّا يكون له فيها أي نشاط.
ولكن، سيكون صعباً استبعاد الخبث عن الطرح الإسرائيلي. وإذا كان سينشأ في البحر خط أزرق أيضاً، فهو سيقود في أي لحظة إلى تنصّل إسرائيل من اتفاق الترسيم وطرحه مجدّداً على الطاولة، بالتوازي مع طرح الخط الأزرق البري.
وهنا يبدو واضحاً أنّ الفريق التقني اللبناني يتحسب لهذا الفخ، من خلال الإصرار على الانطلاق بالترسيم من نقطة رأس الناقورة وعدم السماح بالتلاعب بالنقطة B1، ما قد يؤدي إلى خسارة نقاط عدة هي من حق لبنان على الحدود البرية.
من مصلحة لبنان أن ينجز اتفاق ترسيم ثابتاً، ولكن لا مصلحة له في إقرار اتفاق ترسيم «افتراضي» يحصل فيه الإسرائيليون على إمكانات الاستخراج من «كاريش»، ثم ينقلبون عليه. كما أنّ لبنان ليس معنياً في الأساس بالمناورات في الداخل الإسرائيلي بين اليمين واليسار، خصوصاً على أبواب الانتخابات.
فهل تتاح ولادة الاتفاق أم يتعثر، لا بالخلاف بين لبنان وإسرائيل، بل تحت وطأة المناورات بين القوى السياسية المتنافسة في إسرائيل؟