Site icon IMLebanon

مبادرات صندوق الفرجة

كتب د.مصطفى علوش في “الجمهورية”:

«يعيش المثقف على مقهى ريش محفلط، مزفلط، كتير الكلام عديم الممارسة عدو الزحام بكم كلمة فاضي وكم اقتراح يفبرك حلول المشاكل أوام يعيش المثقف يعيش أهل بلديي» (أحمد فؤاد نجم)

كان «صندوق الفرجة» كما أذكر يركنه صاحبه في ساحة ترابية في «باب التبانة»، مرمية على الضفة الشمالية لنهر أبي علي، قبل أن يجرفها مشروع مجرى النهر الذي دمّر فيما دمّر، معظم تاريخ المدينة التي كانت عائمة على ضفاف هذا النهر. كان صاحب الصندوق «أبو حشيشة» يُدلّل عليه كما يلي: «تعا تفرّج يا سلام على صندوق العجايب، على صندوق الغرايب»، وكان العرض بفرنك واحد، أو خمسة قروش، يوم كانت الليرة تساوي عشرين قرشا، وكان الدولار الأميركي بثلاث ليرات، في أقصى حدوده. كنا نرى العالم من خلال الصور المعروضة تواليًا، فنظن أننا زرنا كل موقع من تلك المواقع، وربما ذهب بعضنا لينظّر على الآخرين بأنه يعرف تفاصيل الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية من خلال صورة برج «إيفل» أو سور الصين العظيم أو جسر سان فرنسيسكو. لكن الحاجة إلى الوجود والدور الاجتماعي من خلال السولفة والأساطير، كان أمرًا محببًا لملء الفراغ القاتل في المعرفة المباشرة.

ما لنا ولتلك النوستالجيا، فلا ينفعنا اليوم البكاء على الأطلال ولا ذكر الحبيبة، مع أن الديار تحولت إلى طلل دارس، وما زلنا نودّع الأحبة كل يوم، بعضهم بتأشيرات رسمية، إن تمكنوا من الحصول على جواز سفر، وآخرين يركبون العدمية في مراكب ركيكة، لعل عدمية الموت تنقذهم من عدمية الحياة. لكن الذكرى تنفع ذوي الألباب، والمهم هو أخذ العبر منها، وليس العيش فيها كأنّ اليوم كالأمس، والغد مثلهما، فلا شيء يتكرر هو بذاته، مع أن بعضنا يظن أنه شاهد المشهد ذاته مرات عدة، لكننا بالواقع «لا نطأ النهر ذاته مرتين» فالماء تسري كما أننا نحن لسنا ذاتنا في كل مرة!

ما يحاول تكراره البعض اليوم هو مشهد الحوارات المتنقلة بين المعسكرات النيابية، فاستذكرت بدايات سنة 2006، عندما انطلقنا كنواب في كتلة المستقبل، لنجول على الكتل والقوى السياسية بحثًا عن حلول تَقي المؤمنين بوحدة البلاد شر القتال. من هم مثلي، وبعد مرور الزمن، يسمّون تلك التجربة بالطفولة، أو ربما المراهقة السياسية! فالطفولة تعني أن كل شيء جديد علينا أن نتعلمه بعيون وقلوب مفتوحة، والمراهقة تعني أن كل شيء علينا تجربته، مهما كانت نصائح الأهل بعدم خوض التجربة المرّة التي تركت طعم العلقم في فم الوالدين. لكن، لا بأس، فنحن لا نطأ النهر ذاته مرتين، والظروف اليوم هي غير الأمس. لكن القواعد الأساسية في أي حوار أو مفاوضات هو أن يكون بين متساوين للوصول إلى حلول وسط، تخفف من خسائر الطرفين، لأنه في ظروف تفوّق طرف على آخر، فالأجدر وصف الأمر بتوقيع معاهدة استسلام الضعيف للقوي. من هنا، فإن جولات «وضع مواصفات رئيس الجمهورية المفيد وطنيًا» قد تكون مجدية، وقد تؤدي إلى توافق ما بين القوى التي لا تملك فائض القوة على الأخرى. لكن، بالوقت ذاته، علينا التأكد من أن بعضها لا يستند لسياسة التقية في علاج الأمور. ومن هنا، فبعض الإفراط في التصاريح المتفائلة عن إيجابيات حصلت في الحوار، هي أيضًا نوع من التقية، إما التقية المتجاهلة لتسويغ الجهد المبذول، أو التشجيعية للآخر للاستمرار في الحوار، أو لإعطاء جرعة أمل للجمهور الذي ينتظر نسمة باردة تخفف من لسعات نار جهنم.

لكن فهم طبيعة من نحاورهم ضرورة توازي ضرورة خوض تجربة الحوار، حتى ولو كانت تحت ضغوطات المستجدات الملحّة، أي انهيار الدولة واقتراب موعد الشغور الرسمي في سدة الرئاسة، مع العلم أنّ الشغور الرئاسي قائم منذ زمن طويل. من هنا، فإن اعتبار الحوار مع «حزب الله» يحمل بعض الإيجابيات، أو سيؤدي إلى إقناعه بضرورة التروي في السعي لأهدافه المعلنة والمخفية في التقية، لن يكون إلا مضيعة للوقت. ومن لا يتّعِظ هنا من تاريخ الحوارات الوطنية، من آذار 2006، مرورًا بإعلان بعبدا، وصولًا إلى ما يحدث اليوم، إنما هو يتصرف كالنعامة في ظل المخاطر.

فكل من يفترض أنه يحاور «حزب الله»، عليه أن ينطلق أولًا من فهم عمق تأثير عقيدته الإيمانية السياسية على قراراته وتصرفاته. هذه العقيدة تعتبر الحزب طليعة عسكرية متقدمة لجيش أسطوري سيخوض المعركة النهائية مع الشر، وهو يتمثّل اليوم بالحرس الثوري وفيالقه العابرة للأوطان، بأسماء متعددة. لكن درّتها هو فيلق «حزب الله». ومن يظن أن الحزب منقسم إلى عسكري وسياسي، يقع في الخطأ من بداية الطرح. وبالتالي، فحتى ولو كان التحليل الذي يلي الطرح يستخدم المنطق السليم، لكنه بالنهاية سيصل إلى الفشل، لأن فرضية الانطلاق كانت خاطئة أو متجاهلة أو متواطئة، أو تسعى فقط لإيجاد دور مختلف عن الآخرين، لمجرد افتراض أنّ من أطلق الحوار هو، لوحده من دون غيره، فوق الشبهات والصفقات والاشتباهات.

عندما التقينا ككتلة سنة 2006 مع حسن نصر الله، ظننا أننا في عالم تحفّ به الملائكة والنيات الحسنة، وحتى أنا المشكك دائمًا، اعتبرت أنها كانت بداية ممتازة، عندما أعلن «بعظمة لسانه» أنه يؤيّد إنشاء المحكمة الدولية بخصوص جريمة اغتيال الحريري، كما أنه أسهَب في انتقاد مسار النظام السوري في لبنان، ولم يتورّع عن التقريع بغباء مخابرات هذا النظام «غير القادرة على تنفيذ عملية دقيقة كجريمة الرابع عشر من شباط»، كما أنه قال: «أنصحكم بالخروج من تحت عباءة أميركا لأنها ستقوم سريعًا بصفقة مع سوريا، وبعدها ما الذي سيحلّ بكم؟». لن أستطرد بالجدل الذي فتحه هذا الكلام، لكنه بالمحصّلة اعتبر هذا النظام جاهز للصفقات مع الشيطان الكبر.

ما حصل بعد ذلك هو التاريخ الذي يجب أن يفهمه المحاورون المستجدون. يعني حرب 2006 واحتلال الوسط التجاري وتعطيل المؤسسات وغزوة بيروت والانقلاب على اتفاق الدوحة وعودة الاغتيالات وانتخاب ميشال عون في صفقة فاسدة مع أركان الفساد، لم يعترض عليها إلّا من كان يخاف على حصته في الفساد، ليس إلّا. فهَمّ الحزب الأساس هو ضمان استمرار قضيته في خدمة ولاية الفقيه، ومن ضمنها تغذية هذه القضية من الشراكة مع الفساد. ولمَن يسأل ويشكّك، فما له إلا مراجعة ملفات التهريب والمطار والمرفأ والكبتاغون وحماية العصابات والمهربين، وحماية المطلوبين… ولا أظن انّ أحدًا من ذوي الألباب سيقول انّ الفساد من أجل المقاومة هو حلال! ولكن، ورغم كل ذلك، لنفترض أننا واقعيين، أي براغماتيين، وعلينا الاعتراف بالواقع القائم للبحث عن مخرج. ولنفترض انّ الحزب راعى صفات المبادرين في اختيار رئيس، ولكن يشترط عليه ألا يقارب سلاح الحزب إلا كأمر واقع في أقسى الحدود، ويتعامل معه، كما الوضع اليوم، بالتسويف والتمنيات. تأتي هنا كل الأحاديث عن استحالة إطلاق عجلة الاقتصاد بشكل يتفوق على الوضع المالي المنهار، إلا من خلال تلاشي القبضة الإيرانية عن لبنان بشكل يسمح للاستثمارات الوازنة أن تعود في مختلف القطاعات. وليس هناك من داع للافتراض أن شركات ومؤسسات قانونية الطابع وتبغي الربح والتطوير، ستغامر في بلد مفتوح على احتمالات الحرب العالية التقدير. وحتى إيران الذي مَنّننا نصر الله بأنها ستعطينا الفيول بشكل تبرعات، تبين أنها فقط تبحث عن الاستثمار والربح، ولا رغبة لها في الحسنات. مع العلم أن عشرات آلاف اللبنانيين لقوا حتفهم من أجل إيران.

لن أسترسل في الموضوع حتى لا أطيل الكتابة، فالمساحة محدودة، لكن خوفي من أن يصبح المبادرون اليوم جزءًا من حملات التسويف والتقية التي أطالت عمر الاحتضار من دون أمل في الشفاء. فلا شفاء للبنان إلا بتلاشي ذراع إيران عنه، ومن ثم يمكن للإصلاح أن يكون ذي جدوى. عدا ذلك، فإن الأمر لا يعدو كونه جهدًا غير مثقف من قبل مشاهدي صندوق أبي حشيشة، بحثًا عن دور أو مكانة، في ظل الفراغ القاتل.