كتبت آمال خليل في “الأخبار”:
ما إن يفتح طه السيد علي هاتفه ليردّ على اتصال ورده، حتى يسأل: «عرفتم شيئاً عن أحمد ونور؟». لا يدقق بهوية المتصل. يوجّه هذا السؤال إلى أيّ كان. فهو وعائلته ينتظران كشف مصير شقيقه أحمد ونجله نور المفقودَيْن إثر غرق مركب طرطوس مساء الخميس الماضي. حاله مثل حال العشرات من عائلات المفقودين في طرابلس وعكار ومخيمَي نهر البارد وشاتيلا الفلسطينيين وتجمعات النازحين السوريين.
في منزل عائلة أحمد السيد علي في القبّة، لا يزال السرير يتوسّط غرفة استقبال المعزّين في انتظار عودة ودائع آل السيد علي من البحر: الوالد أحمد والابن والابنتان وأحد الأحفاد، ليكتمل العزاء. ليل الجمعة الماضي، عادت من طرطوس، جثامين اثنين من أحفاد أحمد، عصمت وريان، وقريبيه كمال وسامح دياب مع موكب الضحايا الطرابلسيين. لكنّ النعوش سرعان ما استدارت وعادت شمالاً باتجاه برقايل العكارية لدفنها، إذ إن ثرى طرابلس لم يتسع لدفن أبناء القبة، فاختار الأهل دفنهم في بلدة أقربائهم. ربما كان على ضحايا آل السيد علي ودياب تأمين ثمن قبورهم قبل صعودهم إلى المركب، لأن مأساة غرقهم قد لا تشفع لهم بتقدمة قبر مجاني.
تبرّع بثمن قبرين
عائلة مصطفى مستو كادت أن تلقى المصير نفسه. منذ تلقيها نبأ وفاته مع أطفاله الثلاثة وهي تفكر كيف تتدبّر لهم القبور. حاولت حجز قبور في مقبرة الغرباء في الزاهرية لأن الكلفة أرخص، لكن أولاد الحلال تبرّعوا بثمن قبرين له ولطفلته رويدة في مدافن باب الرمل القريبة من منزله. لم يكن الأمر تفصيلاً، بل فيه سعادة تبدّد جزئيات من القهر. هكذا يتسنى لأم مصطفى بأن تذهب راجلة لتزوره يومياً بدل تكبّد كلفة التنقل من باب الرمل إلى الزاهرية. وكذلك ستفعل حميدة قليج، التي نجت وحدها، فيما خسرت زوجها مصطفى وأطفالها ديار ودنيا ورويدة. حميدة عادت أمس بعد قضائها مع والدها حسن أياماً عدة في قسم العناية الفائقة في مستشفى الباسل في طرطوس.
«غير قادرين على الموت»
أمام مسرح وسينما أمبير في ساحة التل، نفّذ شبان وشابات من أحياء طرابلس مساء السبت الماضي، وقفة تضامنية صامتة مع ضحايا مراكب الهجرة الأحياء والأموات. هم فريق التمثيل في السينما التي رمّمتها وأعادت افتتاحها جمعية «تيرو» للفنون بعد عقود على إغلاقها. بدت المجموعة خارجة عن السياق في الساحة رغم مرور يومين فقط على غرق المركب. أهل الساحة الذين منهم من سبق إلى البحر ومنهم من ينتظر، بدوا كأنهم تخطّوا الكارثة. لم ينضموا إلى المجموعة الصغيرة.
يؤكد أحد الممثلين محمد الزعبي، ابن باب الرمل. أن أحد الأسباب التي تردعه عن التفكير بالهجرة عبر البحر، هو القبر. جار مدافن باب الرمل لا يصل طموحه إلى حدّ امتلاك بضعة أمتار فيها. فالكلفة لا تقلّ عن ألف دولار. «ما معي حق موت»، يقول ابن الثالثة والعشرين ربيعاً. يضحك الشاب من شرّ البلية، ثم تغرورق عيناه بالدموع وهو يضيف: «بدي أعتل همّ موتي. هنا في طرابلس، مش قادرين نعيش ولا قادرين نموت». يسمع الزعبي من خاله الحانوتي عجائب طرابلسية تجعل الصراع من أجل الموت لا يقل حدّة عن الصراع من أجل الحياة. ومن أبرز الابتكارات لتخفيف الكلفة «تفاوض أهل الميت حديثاً مع الميت قبل أكثر من خمس سنوات، على نقل ملكية القبر، مقابل مبلغ مالي. وهي تقوم على أن يُفتح القبر وتزاح العظام ويُدفن الميت حديثاً بدلاً منه. قيمة صفقة بيع وشراء القبر القديم تقلّ كثيراً عن قيمة فتح قبر جديد».
تضمّ طرابلس مقبرتين أساسيتين في باب الرمل والتبانة. وقبل سنوات، أضيفت مقبرة في محلة الزيتون في أبي سمراء، هي الأغلى سعراً، إذ لا يقلّ ثمن القبر فيها عن خمسة آلاف دولار. وتُعدّ مقبرة الغرباء الأرخص، فهي مخصّصة لدفن المقيمين في المدينة ولا ينحدرون منها. لكنها ازدحمت ليس بالغرباء فقط، بل أيضاً بالطرابلسيين الأقحاح الذين غرّبهم الفقر. فحجزوا لهم فيها، ليس قبوراً لموتهم فحسب، بل بيوتاً لحياتهم أيضاً، إذ تسكن عائلات عدة في نواحيها.