كتب سعد الياس في “القدس العربي”:
خطفت جلسة انتخاب رئيس الجمهورية التي دعا إليها بشكل مفاجئ رئيس مجلس النواب نبيه بري الأنظار في لبنان خصوصاً أن هذه الجلسة التي كانت أشبه بـ «بروفا» انتخابية كشفت الكثير من المعاني والمعطيات أبرزها أن الشغور الرئاسي بدأ يلوح في الأفق تماماً كما حصل بعد انتهاء عهد الرئيس ميشال سليمان وقبل انتخاب الرئيس ميشال عون، وأثبتت هذه الجلسة جهوزية القوى السيادية للمبادرة وتقديم مرشح وعدم إدارة الظهر لميزان القوى الذي تحقّق في الانتخابات النيابية الأخيرة وترك فريق الممانعة يتحكّم باللعبة والإتيان برئيس جديد على صورة عون لست سنوات جديدة.
وإذا كانت دعوة بري أربكت الكتل النيابية على اختلافها، فهي جاءت بعد يومين على عظة البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي التي انتقد فيها ضمناً رئيس المجلس على التأخر بالدعوة إلى جلسة لانتخاب الرئيس وانتظار التوافق. وسأل الراعي «بأي راحة ضمير، ونحن في نهاية الشهر الأول من المهلة الدستورية لانتخاب رئيس للجمهورية، والمجلس النيابي لم يُدعَ بعد إلى أي جلسة لانتخاب رئيس جديد، فيما العالم يشهد تطورات هامة وطلائع موازين قوى جديدة من شأنها أن تؤثر على المنطقة ولبنان؟» مضيفاً «صحيح أن التوافق الداخلي على رئيس فكرة حميدة، لكن الأولوية تبقى للآلية الديمقراطية واحترام المواعيد، إذ إن انتظار التوافق سيف ذو حدين، خصوصاً أن معالم هذا التوافق لم تلح بعد».
ويتخوّف البطريرك الراعي من أن يؤدي أي شغور رئاسي إلى إسقاط الجمهورية أولاً خدمة لمشاريع خارجية وتمهيداً لتغيير هوية لبنان، وثانياً لإفقاد التوازن الوطني وإقصاء الدور المسيحي والماروني تحديداً عن السلطة. وقد جاء سؤال نائب رئيس مجلس النواب الأورثوذكسي الياس بو صعب خلال جلسة الانتخاب حول «إذا كان الدستور يفرض انتخاب ماروني لرئاسة الجمهورية؟» ليعزّز هواجس البطريركية من وجود نوايا خفية للانقلاب في المستقبل على العرف الذي يوزّع الرئاسات الثلاث بين الموارنة والشيعة والسنّة، ولو كان سؤال بو صعب لا ينطلق من خلفية سياسية معينة إنما مجرّد طرح السؤال يبيّت ما يدور في أذهان البعض.
ويعتبر الراعي أن الموارنة هم آباء الكيان اللبناني ورواد الشراكة الوطنية ويريد الحفاظ على هذه الشراكة وعدم الإخلال بها، ويتوجّس مما يُحكى عن امكانية بقاء رئيس الجمهورية بعد انتهاء ولايته في قصر بعبدا لئلا يؤدي هذا الأمر إلى الدخول في مغامرات جديدة على غرار ما حصل عام 1989 مع الجنرال ميشال عون نفسه، حيث انقسم البلد بين حكومتين واندلعت حربان. ولذلك لا يرى البطريرك مانعاً دستورياً من تسلّم حكومة كاملة الأوصاف صلاحيات رئيس الجمهورية، لكنه في الوقت ذاته لا يرى طبيعياً ألا تتم الانتخابات الرئاسية وألا يتم تداول السلطة من رئيس إلى رئيس، رافضاً «خلق تنافس مصطنع بين رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة فيما المشكلة هي في مكان آخر وبين أطراف آخرين» وهذا موقف يتلاقى مع كلمة مفتي الجمهورية الشيخ عبد الله دريان أمام النواب السنّة الـ 24 الذين التقوا في دار الفتوى حيث شدّد على «إنهاء الاشتباك المصطنع والطائفي والانقسامي بشأن الصلاحيات والعودة إلى المبدأ الدستوري في فصل السطات وتعاونها».
من هنا، يأتي تركيز البطريرك الراعي الدائم على انتخاب رئيس قادر على قيادة البلاد بالأصالة وليس عن طريق تسليم البلاد إلى حكومة مستقيلة أو معوّمة، لئلا يؤدي تكرار الشغور الرئاسي المفتوح إلى تغيير في النظام والدستور ويسفر عن الاطاحة باتفاق الطائف. لذلك أعاد البطريرك التشديد على التمسك باتفاق الطائف بعد دعوة سابقة ويتيمة منه إلى عقد اجتماعي جديد من وحي الميثاق الوطني، إذ لاحظ أن البعض وتحديداً أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله استغل دعوته للمناداة بمؤتمر تأسيسي عنوانه إعادة بناء الدولة.
وعلى الرغم من حرص بكركي على إنجاز الاستحقاق الرئاسي في موعده، إلا أن البطريرك ينأى بنفسه عن الدخول في موضوع تسمية أو تزكية مرشح بعينه ويكتفي بالتحذير من خطورة الفراغ أمام عدد من المرشحين الطبيعيين الذين يزورونه سواء في المقر الصيفي في الديمان أو في الصرح البطريركي في بكركي.
ويأخذ الراعي العبرة من التجربة التي عاشها البطريرك الراحل مار نصرالله بطرس صفير عندما طُلب منه في تشرين الثاني 2007 بضغط فرنسي آنذاك إعداد لائحة إسمية ببعض المرشحين تُسلّم إلى الرئيسين نبيه بري وسعد الحريري تسهيلاً لاختيار إسم من بينها، وإلا يتم تحميله جانباً من مسؤولية عدم حصول الانتخابات. يومها أعدّ البطريرك صفير وسلّمها إلى وزير الخارجية الفرنسي برنار كوشنير ولكن لم تُحترم رغبته ولم يتم اختيار أي من أسماء اللائحة، ويتجنّب الراعي حالياً الدخول في مثل هذه المغامرة وتزكية مرشح أو مرشحين لئلا يُصاب بالخيبة، هو الذي ما زال يسمع انتقادات على جمعه في بكركي الأقطاب الموارنة الأربعة العماد ميشال عون والرئيس أمين الجميل والدكتور سمير جعجع والوزير السابق سليمان فرنجية لبحث المسائل الخلافية، ما رأى فيه البعض حصراً لمرشحي رئاسة الجمهورية بالأقطاب الأربعة ورسالة لانتخاب الرئيس القوي والتمثيلي من داخل هذا النادي وليس من خارجه.
وبعد انتخاب الرئيس عون والرهان على انتقاله من ضفة التحالف مع حزب الله إلى ضفة الوسط فشل هذا الرهان، ولم يُقِم عون مسافة بينه وبين دويلة الحزب بل عمد هو وصهره الذي شغل مراراً منصب وزارة الخارجية لتغطية سلاح حزب الله والدفاع عنه، ما أثار نقزة المجتمع الدولي وغضب الدول العربية والخليجية التي شابت علاقتها بلبنان أزمة دبلوماسية غير مسبوقة وامتنعت عن مساعدة لبنان على تخطّي أزمته الاقتصادية والمالية طالما بقي الوضع على حاله في رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة. وقد جاء البيان الثلاثي الأخير بين وزراء خارجية الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا والسعودية عشية الاستحقاق الرئاسي ليعبّر عن رغبة هذه الدول الضمنية في اختيار رئيس غير حليف لحزب الله، حيث دعا البيان الثلاثي إلى «انتخاب رئيس يمكنه توحيد الشعب اللبناني ويعمل مع الجهات الفاعلة الإقليمية والدولية لتجاوز الأزمة الحالية» وأكد على «ضرورة قيام الحكومة اللبنانية بتنفيذ أحكام قرارات مجلس الأمن 1559 و1701 و1680 و2650 والالتزام باتفاق الطائف المؤتمن على الوحدة الوطنية والسلم الأهلي في لبنان».
وليس البطريرك الراعي بعيداً عما ورد في البيان الأميركي والفرنسي والسعودي، فهو يتحفّظ كثيراً على أداء العهد وصهره، ويرى أن توجهات هذا العهد تختلف عن الخط التاريخي للمسيحيين في لبنان وخرجت عنه، الأمر الذي أساء إلى المسيحيين ودورهم الانفتاحي في لبنان والمنطقة. وقد أطلق سيّد بكركي مراراً رسائل حول ضرورة حياد لبنان وعدم انزلاقه في سياسة المحاور وصراعات المنطقة ورفض هيمنة طرف مسلّح على قرار الدولة اللبنانية.
وليس سراً أن هناك خلافاً مستحكماً بين بكركي وبعبدا، لذلك يستعجل الراعي انتخاب رئيس جديد ينهي حقبة عون ويفتح صفحة جديدة، منادياً برئيس حر واعد غير مرتبط بأحد ينتشل لبنان من القعر ويكون قادراً على وضع البلاد على طريق الانقاذ الحقيقي والتغيير الإيجابي. رئيس يجسّد حلم الآباء والأجداد يقود ولا يُقاد، لا يَستفزّ ولا يُستفَز، يوحّد الوطن ويعلو فوق المٍحن. ومن المعروف أن علاقة غير ودية تسود بين البطريركية المارونية وتيار العماد عون منذ تنفيذ أنصاره اعتداء على البطريرك صفير على خلفية دعمه اتفاق الطائف الأمر الذي اضطر صفير إلى مغادرة بكركي إلى الديمان. وبقيت العلاقة غير ودية في ظل اتهامات من جمهور التيار لبكركي بدعم رئيس حزب القوات سمير جعجع.
ومن وحي هذه العلاقة وهذا الاصطفاف للعهد وتياره مع حزب الله في مقابل القوى السيادية التي ترفض المشروع الإيراني في لبنان، انعقدت جلسة انتخاب رئيس الجمهورية الجديد وطرحت القوى السيادية ترشيح رئيس «حركة الاستقلال» النائب ميشال معوض المعروف بتوجهاته السيادية وشبكة علاقاته العربية والدولية ورفضه سلاح حزب الله، وهو خرج من «تكتل لبنان القوي» اعتراضاً على سياسته وأدائه بعد انتخاب عون رئيساً. وجاء ترشيح معوّض تعبيراً عن رفض القوى السيادية رئيساً وسطياً لا لون ولا طعم ولا رائحة له على طريقة «ابو ملحم» من دون أن تختار ترشيح شخصية استفزازية. فمن المعروف أن ميشال معوّض هو نجل الرئيس الراحل رينه معوض، الشخصية الزغرتاوية الذي يحمل النهج الشهابي، والذي قُتِل في تفجير موكبه يوم عيد الاستقلال بعد فترة قصيرة على انتخابه من قبل نواب الطائف، والذي رفض إملاءات نائب الرئيس السوري عبد الحليم خدام في تشكيل الحكومة وتسمية الوزراء. ولا يبدو أن هذه القوى السيادية مستعدة لتكرار تجربة تأييد رئيس شبيه بالعماد عون يكمل مسيرة الانهيار والانحدار نحو القعر ولا يحظى بثقة وتأييد المجتمع الدولي والدول الخليجية. واللافت في هذا السياق، هو أن الحزب التقدمي الاشتراكي، الذي كان رئيسه وليد جنبلاط عقد اجتماعاً تشاورياً مع وفد من حزب الله وطُرحت أكثر من علامة استفهام حول ما إذا كان بصدد تموضع سياسي جديد، منح صوته للمرشح السيادي ميشال معوض، مؤكداً بذلك اتفاقه مع القوات اللبنانية والكتائب وكتلة «تجدد» ومتمايزاً عن صديقه الرئيس بري الذي اقترعت كتلته بورقة بيضاء إلى جانب كتلة حزب الله وتيار المردة والتيار الوطني الحر للهروب من عدم القدرة على تبنّي فريق الممانعة مرشحاً من إثنين هما سليمان فرنجية وجبران باسيل.
وإذا كانت المعارضة لم تتمكّن من توحيد صفوفها بنصاب كامل بسبب موقف نواب «تكتل التغيير» إلا أنها نجحت في توحيد القسم الأكبر، وتسعى لمواجهة الفراغ الذي ترفضه بكركي انطلاقاً من رفض ضرب أسس الدولة ومؤسساتها والتمادي في سيطرة منطق الدويلة على الدولة وجرّ لبنان إلى مشاريع لا تشبهه ولا تشبه شعبه وحضارته.