كتب خالد حماده في “اللواء”:
في حمأة الإنتصارات الوهميّة التي يسجلها مجموعة من «الدونكيشوتيين» اللبنانيين المعنيين بملف الترسيم، تفاوضاً وتأييداً ـــ ومن خلفهم المهلّلون والمصفقون ــ يقتضي التذكير بالمادة (2) من الدستور اللبناني التي تنصّ على ما يلي: «لا يجوز التخلي عن أحد أقسام الأراضي اللبنانية أو التنازل عنه». أما حدود لبنان فهي جنوباً حدود قضاءيّ صور ومرجعيون الجنوبية الحالية وغرباً البحر المتوسط (المادة 1 من الدستور نفسه)، وليس المنطقة الإقتصادية الخالصة لفلسطين المحتلّة، علماً أنّ المادتين المذكورتين لم يتمّ إدخال أي تعديل عليهما بموجب إتّفاق الطائف. وفي هذا المقام لا بدّ من تقدير الموقف الشجاع للمؤرخ والخبير في الشؤون الحدودية الدكتورعصام خليفة الذي وصّف الإنتصار المزعوم باعتماد الخط 23 بالقول: «لبنان هو الدولة الوحيدة في العالم التي تفتش عن حدود للمنطقة الإقتصادية من خارج حدودها البرية. إنّ التخلي عن نقطة حدود رأس الناقورة خيانة عظمى ومخالفة للدستور».
وأضاف خليفة:«إنّ تعديل نقطة الحدود على الساحل يسوّغ لإسرائيل أن تعدّل الحدود البرية لاحقاً، ومن هنا مصلحة لبنان التمسّك بإتّفاقية الهدنة (الموقّعة في عام 1949) واتّفاق ترسيم الحدود ورفض أي تعديل لنقطة الحدود البرية أي رأس الناقورة».
إعتقد اللبنانيون أنّ جلسات مجلس النواب لمناقشة الموازنة أو لمحاكاة (Simulation) إنتخاب رئيس الجمهورية، بما تخللها من بِدعٍ وأعراف، ستكون المشهديات الأخيرة في العهد الحالي للبؤس الذي يعتري المؤسسات الدستورية والحياة السياسية، وأنها أدنى ما يمكن أن يدركه ساسة لبنان من مظاهر سقوط الديمقراطية البرلمانية. لكنّ ردود فعل الرئاسات الثلاث ومعهم حزب الله على المقترحات الخطية لمشروع الترسيم التي اتّسمت بالتسرّع واستسهال تضليل اللبنانيين، وما قابلها من مواقف إسرائيلية متناغمة قد تجاوز مهازل الجلسات الآنفة الذكر ليرقى الى حدّ الخفة وفقدان الأهلية .
التساؤل البديهي حيال ما شهدناه هو في القدرة على فهم هذا التلاقي بل التماهي بين صحف الممانعة ووسائل إعلامها مع وسائل إعلام العدو الإسرائيلي في تناول الحدث الجلل، لدرجة استحال معها على الجمهور اللبناني بشقّيه الممانع والسيادي كما ربما على الجمهور الإسرائيلي تحديد أي من الطرفين المفاوضين كان الأحذق والأذكى ومن منهما تمكّن من تحقيق أهدافه. في الوقت عينه تشارك الرؤساء اللبنانيون ومعهم أمين عام حزب الله مع رئيس وزراء العدو ووزير دفاعه في الترحيب بالاتّفاق، فتلاقت قناة الميادين مع صحيفة معاريف في اعتبار الإتّفاق يحقق مصالح كلّ من لبنان وإسرائيل، وذهب بعض إعلام العدو إلى الحديث عن اعتدال حسن نصرالله فيما اعتبر بعضه أنّ نصرالله قد أنهى مهمته بنجاح. وما إعلان رئيس وزراء العدو عرض الإتّفاقية على مجلس الوزراء السياسي والأمني المصغّر يوم الخميس المقبل لأخذ موافقته ومواقف بنيامين نتنياهو الرافضة للإتّفاق سوى تعبيراً عن تنافس وتسابق للتوقيع على تحوّل كبير في مستقبل إسرائيل. بإختصار إنّ التناغم بين كلّ تلك التقاطعات له تفسير واحد: لقد فرضت الولايات المتّحدة الإتّفاق على الترسيم في لحظة دولية حاسمة وتركت لمن أراد من المعنيين أن ينسج أمام جمهوره الرواية التي يريد وأن ينسب لنفسه ما شاء من انتصارات.
إنّ أي مسار تفاوضي محكوم بعامليْن، الأول مَنْ نفاوض وما هو ميزان القوى للمتفاوضين والثاني ماهية ظروف التفاوض، وعلى هذا الأساس يبدو جليّاً أنّ ما آلت إليه المفاوضات ليس سوى انعكاس للمعطيات القائمة التي يدركها اللبنانيون قبل سواهم. فلبنان المجرد من كلّ نقاط القوة في السياسة والإقتصاد والوحدة الوطنية والمحكوم بالتدخّل الخارجي والعاجز عن إنتاج السلطة لا يسعُه سوى التنازل. وإذا ما أضيف الى المعطيات الآنفة الذكر الوهن الذي يمليه على التفاوض فساد الحكام واستجداء الدعم الخارجي لتثبيت سلطانهم في لحظة دولية حرجة، ترتسم صورة الإتّفاق الذي حملته السفيرة دوروثي شيا إلى الرؤساء الثلاثة وتتماهى ردود الفعل الإحتفالية عليه مع حالة الزيف والإنكار التي يعيشها صانعو القرار في لبنان.
يدرك اللبنانيون أنّ الترسيم فرضته الحرب في أوكرانيا والرغبة الأميركية في تحرير أوروبا من القيود الروسية على الطاقة، لم تفرضه تهديدات نصرالله ولا مسيّرات حزبه التي أُسقطت في المجال الجوي اللبناني وأعلن الحزب إنها لم تكن مسلّحة. وهم يدركون كذلك أنّ التنازل عن النقطة (B1) هو أقصى ما كانت تريده إسرائيل وقد حققته، وأنّ الرهان على فصل الترسيم البحري عن البري قد لا يكون متاحاً في ظلّ معادلة القوة الموجودة. لن تنطلِ كلّ محاولات تزيين الإتّفاق على اللبنانيين ولكنّ صمتهم لا يعني سوى انتظار نهاية قريبة لإنتصارات مزعومة في دولة منحلة.