جاء في القدس العربي:
شكّل الاتفاق على ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل نجم الحدث هذا الأسبوع نظراً لأبعاده وانعكاساته على الوضع والاستقرار في المنطقة واستبعاد أي توتّر في المستقبل القريب بين حزب الله وإسرائيل. وجاء هذا الاتفاق في لحظة دولية وإقليمية ملائمة نتيجة الحرب الروسية الأوكرانية والحاجة الأوروبية للنفط والغاز ونتيجة مساع أمريكية عبّرت عن حاجة الولايات المتحدة إلى تحقيق مكسب في الشرق الأوسط بعد تعثر علاقتها مع الرياض وخفض منظمة “أوبك بلس” الإنتاج النفطي.
ولكن اللافت في هذا الاتفاق هو محاولة رئيس الجمهورية ميشال عون توظيف ما وصفه «إنجازاً تاريخياً» في خدمة الحسابات السياسية الداخلية وتعويم صهره رئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل، حيث تعمّد الرئيس عون القول في رسالته الموجّهة إلى اللبنانيين “ان ملف الترسيم هو ثمرة مسيرة طويلة بدأت فعلياً في عام 2010 عندما أعدت وزارة الطاقة والمياه التي كان يتولاها الوزير جبران باسيل الخطة”.
وبادر باسيل بعد موقف عون إلى تمرير رسالة إلى الولايات المتحدة الأمريكية عن لعبه دوراً مسهّلاً خلف الكواليس مع حزب الله في موضوع الموافقة على الترسيم، علّ هذا الدور يخدمه في موضوع رفع العقوبات الأمريكية عنه أولاً واستثمار هذا الدور في معركة رئاسة الجمهورية ثانياً وللإمساك مجدداً بمفاصل السلطة في لبنان مع حليفه حزب الله الذي يحاول أمينه العام السيد حسن نصرالله انتزاع تفويض أمريكي بإدارة الحكم في لبنان على غرار التفويض الذي استفادت منه سوريا بعد الغزو العراقي للكويت ومشاركتها بقوات ضمن التحالف.
ولا يخفى على أحد في لبنان كيف انقلبت موازين القوى منذ «تفاهم مار مخايل» بين التيار الوطني الحر وحزب الله، وكيف تعطّل انتخاب رئيس الجمهورية سنتين ونصف إلى حين انتخاب العماد ميشال عون رئيساً وكيف تعطّلت حكومات إلى حين تعيين جبران باسيل وزيراً. واليوم يحاول الطرفان الإفادة من موضوع الترسيم لبعث رسالة إلى الإدارة الأمريكية حول أهمية التعامل معهما كفريق براغماتي وتوظيف الاتفاق في مصلحة أغراض سلطوية لهذا الفريق الذي تنظر إليه أطراف لبنانية على أنه يجسّد منظومة الفساد والسلاح بدل توظيف الاتفاق لمصلحة لبنانية عامة.
واللافت أن الرئيس عون تعاطى مع اتفاقية الترسيم وكأنه رئيس بصلاحيات ما قبل اتفاق الطائف، فاختصر بشخصه الموافقة على الاتفاقية من دون أن يتحدث عن إجراءات مكملة لهذه الاتفاقية لا في مجلس الوزراء ولا في مجلس النواب خلافاً لما حصل في موضوع اتفاق 17 أيار في عهد الرئيس أمين الجميّل الذي أبرمه مجلس النواب من دون أن يبرمه الرئيس الجميّل والذي يُقال إنه كان يعطي حقوقاً للبنان في البحر حتى حقل «كاريش».
ويرى رئيس الجمهورية، الذي يستعد لمغادرة قصر بعبدا في نهاية هذا الشهر وعلى الأرجح يوم الأحد في 30 الجاري تمكيناً لمناصريه من تنظيم وداع شعبي على طول الطريق من بعبدا إلى الرابية، ان خطوة الترسيم ستسجّل لصالح عهده بعد تراكم الأزمات التي بلغت حدود الانهيار المالي والاقتصادي والمعيشي والاجتماعي، وستمنحه خروجاً لائقاً من بعبدا وفكّاً للعزلة الدولية والعربية التي طبعت عهده، وستفتح الباب أمام صهره لرفع الفيتو الأميركي عنه وليكون وريث العهد الحالي والمؤهل لتحقيق اختراق في المرحلة المقبلة في ضوء عدم تمكّن المجلس النيابي من انتخاب رئيس في جلسته الثانية وعدم ظهور أي مؤشرات للتوافق في الجلسة الثالثة الخميس المقبل بين الكتل النيابية مع تسجيل اصطفافات سياسية جديدة ومحاولة لتشكيل كتلة نيابية وسطية من 27 نائباً تتألف من «تكتل الاعتدال الوطني» ونواب «تكتل التغيير» ونواب صيدا وبعض النواب المستقلين.
غير أن الفريق المعارض في لبنان لا يوافق على مقاربة العهد ولا يرى أن اتفاقية الترسيم ستشكّل نافذة لباسيل نحو القصر الجمهوري، بدليل ما قالته السفيرة الأمريكية في لبنان دوروثي شيا عن عدم وجود أي تأثير لاتفاق الترسيم بين لبنان وإسرائيل على موضوع العقوبات المفروضة على باسيل، لافتة إلى «أن نظام العقوبات في الولايات المتحدة لا يعمل بهذه الطريقة» وموضحة «أننا لا نتعاطى بهذا الشكل الرخيص». ويذكّر الفريق المعارض بأن هذا العهد الذي يراهن على تعويم باسيل لم ينس الناس بعد كم شهد من مآس كثيرة في طليعتها انفجار مرفأ بيروت وانفجار الازمة الاقتصادية والمالية وسرقة أموال المودعين وغياب الكهرباء وهجرة آلاف الشباب والطاقات وانهيار المستشفيات والمدارس والعملة الوطنية.
وكما باسيل كذلك حزب الله يحاول الاستثمار في موضوع الترسيم للقول إن هذا الإنجاز لما كان ليتحقق لولا قوة المقاومة ومسيّراتها فوق «كاريش». أما لمن يزايد على الحزب بالقول إنه تنازل عن الخط 29 وعن حقوق لبنان في المنطقة الاقتصادية الخاصة فيجيبهم إنه كان يقف خلف الدولة اللبنانية. وهكذا فإن أمين عام حزب الله الذي قال «لو سئلت عن حدود بحرنا لقلت إنه يمتد إلى بحر غزّة» سيتخذ ذريعة جديدة للاحتفاظ بسلاحه بحجة وجود نقاط بحرية متنازع عليها مثل وجود نقاط برية متنازع عليها أيضاً في مزارع شبعا وعلى طول الخط الأزرق. فمَن رفض تسليم سلاحه بعد انتهاء الحرب عام 1990 ومَن رفض تسليمه بعد التحرير عام 2000 ومَن رفض تسليمه بعد الانسحاب السوري عام 2005 وبعد حرب تموز عام 2006 لن يسلِّمه اليوم بعد الترسيم، لأن لا علاقة لسلاحه بلبنان واللبنانيين كما يقول خصوم الحزب الذين يطرحون السؤال حول كيفية منع منظومة الفساد والسلاح من استغلال الترسيم لتعزيز دورها في خطف البلد والهيمنة على قراره وعقد التسويات على حسابه.