كتب نقولا ناصيف في “الأخبار”:
كلما بان مؤشر إيجابي مسحه آخر سلبي. العكس صحيح أيضاً. كأن ثمة سباقاً بين مَن يريد حكومة جديدة ومَن لا يريدها، مع أن الخلاصة نفسها، وهي أن اللاحكومة ليست سوى الحكومة نفسها، المستقيلة المكلفة تصريف الأعمال برئيسها نفسه.
ما هو أكثر من حاسم وقاطع أن شغور رئاسة الجمهورية حاصل بعد 31 تشرين الأول. منذ أشهر وليس الآن فحسب، يتعامل معه الأفرقاء على أنه حتمي، ويحتارون في الوقت نفسه في الطريقة الواجبة لإدارته دونما أن يُعرف فعلاً إلى متى سيستمر وأي مقدار من التردّي وربما الفوضى سيتسبب به؟
في الأسبوعين المنصرمين، رغم مسحة التشاؤم، ظلت عند البعض المعني بارقة أمل في لحظة ما، قبل نهاية الولاية، في توقيع الرئيس ميشال عون قبل مغادرته قصر بعبدا مرسوم تأليف حكومة جديدة. بعض هؤلاء رجّح التوقيع في اليومين الأخيرين من الولاية، على أن يصير إلى اجتماع الحكومة لوضع بيانها الوزاري ومثولها أمام البرلمان لنيل الثقة – وكلاهما استحقاقان دستوريان لا اجتهاد فيهما أو يسهل تجاوزهما – في وقت لاحق بعد 31 تشرين الأول. لا مفر من توقيع الرئيس المرسوم قبل مغادرته. حتى ذلك الوقت، ثم في ما بعد، لا أحد يملك أن ينوب عنه في ما يقع في صلب صلاحياته الدستورية، خصوصاً أنه منفرداً يوقع مرسومي قبول استقالة الحكومة وتسمية الرئيس الجديد للحكومة، على أن يقاسمه الأخير توقيع مرسوم تأليف الحكومة.
فوق موجات تفاؤل وتشاؤم أو تحتها، لا يزال ما تبقى من الوقت قبل الدخول في مغامرة غير مأمونة العواقب: تسلّم حكومة تصريف الأعمال صلاحيات رئيس الجمهورية. مع أن الرأي الدستوري الصائب يقول إن لا فراغ في السلطات الدستورية العليا، ما يجعل حكومة – كالحالية المستقيلة – مستعيدة سلطاتها كلها في لحظة ترك رئيس الجمهورية منصبه، بيد أن الاجتهاد السياسي مختلف. يُعتدّ به عند البعض، ولا يُعتد به عند بعض آخر: تولي حكومة تصريف أعمال صلاحيات رئيس الجمهورية أشبه بمَن يملأ الفراغ بالفراغ.
بعد استقبال الرئيس نبيه برّي أمس وفد التيار الوطني الحر برئاسة رئيسه النائب جبران باسيل، ظهرت إشارات أولى إيجابية. ما سمعه الوفد الزائر من رئيس البرلمان – وهو ليس جديداً ولا يُدلى للمرة الأولى إلا أن توقيته يجعله ذا مغزى أكثر – أعطى الإشارات الإيجابية: ضرورة تأليف الحكومة في أسرع وقت قبل انهيار الفرصة الأخيرة، ونشوء أمر واقع يُخضِع الجميع إلى أحكامه. للتو سرت معلومات عن جهد يُنتظر أن يبذله في الساعات القليلة المقبلة حزب الله لدى الطرفين المباشرين المعنيين بالمأزق الحكومي وهما الرئيس نجيب ميقاتي وباسيل. قيل أيضاً إن باسيل تخلى عن شرط استبدال أربعة وزراء بثلاثة، وبات أكثر استعداداً للدخول في جولة جديدة من التفاوض. في المقابل انتهت شروط ميقاتي إلى القبول بتغيير وزير واحد في كل طائفة، دونما مسّ بتوزيع الحقائب وأحجام القوى وتوازناتها، لئلا يُفسَّر تغيير أوسع على أنه إعادة تأليف الحكومة برمتها. عُزي موقفه إلى سعيه إلى تغيير وزير الاقتصاد السنّي كي يسميه هو، وإبدال برّي وزير المال الشيعي بآخر.
تحوّل رئيس التيار الوطني الحر في الأسابيع الأخيرة إلى المحاور الفعلي والجدي لميقاتي – دونما أن يلتقيا – في أزمة أخذا يتبادلان حيالها الشروط المستعصية والسقوف العالية إلى حد الاعتقاد أن كليهما لا يريد حكومة جديدة لأسباب مختلفة. عند الأول الأكثر اطمئناناً إلى أن لا بديل من حكومته أياً تكون عليها صيغتها، وهو من خلالها سيفرض على الأفرقاء جميعاً أمراً واقعاً لا مناص من التسليم به. وعند الثاني أن خياراً كهذا سيصطدم بتحرّك في الشارع، ورفض الاعتراف بتعويم حكومة مستقيلة كي تصبح عاملة دستورية بوظائفها كلها.
وفق متتبعي اتصالات دارت في الأسابيع الثلاثة المنصرمة، وصولاً إلى الأيام الأخيرة، أن عقبتين رئيسيتين أوقفتا المساعي، هما شرطان تمسّك بهما باسيل ورفضهما ميقاتي بحزم: أولهما إصراره على إبدال أربعة وزراء مسيحيين في الحكومة الحالية إلا أنه يسلّم ميقاتي أسماءهم في قصر بعبدا في أوان إصدار مرسوم تأليف الحكومة الجديدة، على غرار ما اعتاد برّي أن يفعله لأكثر من عقدين من الزمن. أما ثانيهما الذي لا يزال نفسه منذ الدقيقة الأولى، فهو رفضه منح حكومة ميقاتي ثقة كتلته النيابية في البرلمان. كلا الشرطين أغضبا رئيس الحكومة المستقيلة الرئيس المكلف فأوصد أبواب الحديث في تأليف الحكومة نهائياً.
منذ غداة تكليف ميقاتي وتسليمه رئيس الجمهورية في 29 حزيران مسودة حكومة، تدرّج تفكيك الحكومة المستقيلة على أن يصير إلى إعادة تعويمها بمراسيم جديدة. طرح ميقاتي أولاً إخراج وزراء الاقتصاد والمهجرين والطاقة وإبدالهم بآخرين على أن لا يستفز الوزير الدرزي الجديد وليد جنبلاط من أجل كسب أصوات كتلته للثقة بالحكومة. اقترح كذلك التخلي عن وزيرة التنمية الإدارية كي يتسنى له تسمية وزير الاقتصاد في الحصة السنّية. طرح رئيس الجمهورية ستة وزراء دولة يمثلون الطوائف الست الرئيسية على أنهم سياسيون، فرفض برّي وميقاتي معاً الاقتراح.
تدخّل حزب الله لدى الرئيس المكلف وباسيل، فطرح ثانيهما للمرة الأولى شرطه: تغيير خمسة وزراء مسيحيين هم وزراء العدل والشؤون الاجتماعية والسياحة والخارجية والتنمية الإدارية. قال عن أولهم إنه أخفق في ملف انفجار مرفأ بيروت، وعن رابعهم إنه لا يستمزجه رأيه في مواقفه وأخصها من حرب أوكرانيا إلى تعديل مهمات قوة اليونفيل في الجنوب. على أن يحل النائب السابق إدي معلوف وزيراً للتنمية الإدارية. ما قاله إن ثلاثة من الخمسة هم وليد نصار وهيكتور حجار ونجلاء رياشي صاروا أقرب إلى ميقاتي منهم إليه. اجتمع باسيل بالوزراء الخمسة في مركز ميرنا شالوحي، ثم التقى بكل منهم على حدة في اللقلوق. بالتزامن حمل الوزير السابق صالح الغريب إليه لائحة من ثلاثة أسماء من النائب السابق طلال إرسلان تتضمن مَن يقترح إحلاله محل الوزير الدرزي المستغنى عنه في حصة إرسلان عصام شرف الدين. ببرودة تعامل باسيل مع العرض، فنقل إرسلان الشكوى إلى حزب الله. حمل وفيق صفا إلى باسيل لائحة بأسماء ثلاثة أخرى إلى باسيل مجدداً، ناصحاً الأخذ في الاعتبار تحالف إرسلان مع الحزب. في وقت لاحق تراجع رئيس التيار عن تغيير وزير العدل، فأبقى مع مفاوضيه على الأربعة الآخرين. إلا أنه اشترط الكشف عن الوزراء البدلاء وتسليم أسمائهم إلى ميقاتي في قصر بعبدا قبيل صدور المراسيم.