كتبت هيام القصيفي في “الأخبار”:
أعطى حزب الله حليفه رئيس الجمهورية العماد ميشال عون قصب السبق في عملية الترسيم البحري. انسحابه من دائرة الضوء وتبريد الجبهات الداخلية يعزّزان الانطباع بضغط مقابل تسوية حكومية بالحد المقبول.
انكفاء حزب الله عن مقدمة الحدث اللبناني رغم أنه الرقم الأول الفاعل فيه، لافت في توقيته وأسبابه وارتداداته.
في الصورة العامة، يظهر المشهد اللبناني وكأنه تتمة لحالات العزل والتبريد التي تشهدها جبهات إقليمية موازية كالعراق واليمن، على اتجاهات مختلفة بسيطة وعميقة. ففي غضون أيام، بدأ كلام عن تبادل زيارات أسرى في اليمن وانتخابات رئاسية في العراق وتعيين رئيس حكومة، بعد جمود استمر شهوراً طويلة. وهذا ليس تفصيلاً في قراءة المشهد المتشابك، بل يبدو وكأن ما يحصل في لبنان أقرب إلى نزع فتيل التفجير تباعاً في ملفات عالقة. لا يتعلق الأمر فقط بدور حزب الله، بل برعاة دوليين وإقليميين كثّفوا حركتهم أخيراً في اتجاه لبنان لتخفيف جبهات التوتر، بعد تصاعد مؤشرات داخلية مقلقة سياسياً وأمنياً. فظهر وكأن من في الداخل والخارج يتهيّبون احتمالات التفجير التي تلوح في الأفق، فتسارعت وتيرة الرسائل عبر وفود واتصالات بهدف لملمة الوضع، بعدما بدا أن ثمة حاجة خارجية لتبريد الساحة اللبنانية، في عز الانشغال الدولي بملفات أكثر سخونة وإلحاحاً. ولاقى حزب الله هذه الاندفاعة إلى منتصف الطريق.
صحيح أن كل الحركة المتصاعدة لن تصل إلى رئاسة الجمهورية، كون هذا الملف أكثر تشابكاً، إلا أنها تضيء في الوقت نفسه على أسباب التهدئة التي يمارسها حزب الله على بُعد أسبوعين من نهاية العهد، وهي سياسة انتهجها منذ الانتخابات النيابية في الملفات الداخلية.
كل الإحاطة بملف الترسيم البحري تعاطى بها الحزب بهدوء، وبأقل ما يمكن من إضاءة على دوره وعلى ما يترتب على هذا الملف سياسياً وأمنياً وارتداداً إقليمياً على ملفات أخرى ودور الترسيم مستقبلاً في ملف حزب الله الإقليمي. ورغم الدور الأساسي للحزب، أخذ رئيس الجمهورية العماد ميشال عون ورئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل الملف البحري إلى مقدمة الحدث، وتعاملا معه على أنه إنجاز لهما في استثمار داخلي بحت، ولم يمانع الحزب في ذلك. كلما خفّ تسليط الضوء عليه، محلياً، تراجعت نسبة تورطه في مشكلات داخلية هو في غنى عنها، ما دامت حدود الإنجاز البحري معروفة إقليمياً ودولياً، كما أهدافه الآنية والمستقبلية. وهي تتخطى بأشواط حاجة أوروبا الظرفية بسبب حرب أوكرانيا، إلى غاز في المدى البعيد. وقد عرف حزب الله كيف يبتعد عن الاستثمار الداخلي والخارجي لملف حساس رغم كل الحملات السياسية التي قامت ضده بسبب اتفاق لبنان غير المباشر مع إسرائيل. وإذ يحاول في ملف الترسيم تصفير مشكلاته، بترك الملف في عهدة السلطات الرسمية، سعى في المقابل إلى ضخ نفحة جديدة من الدعم لتسريع وتيرة تشكيل الحكومة.
منذ أسابيع، يضغط الحزب لتشكيل الحكومة، قبل الترسيم وبعده. وهو بقدر ما يريدها صمام أمان داخلي في ظل الفراغ الرئاسي، يسعى إلى أن يقلص إلى الحد الأدنى احتمالات التوتر لدى حليفه التيار الوطني الحر. لكنه يسعى، في مكان ما إلى شبه مقايضة معه، وإيجاد توازن بين ما حصل عليه باسيل في ملف الترسيم وبين ضرورات تحتم تشكيل الحكومة حتى لو ظهر في المشهد العام أن باسيل يقدّم تنازلاً من حصته. فيما الواقع أن كل الحكومة ستكون أسيرة تجاذبات محلية تتعدى تقليص الحصص الوزارية أو تعزيزها، ما دام حزب الله سيظل ممسكاً بمفاتيح اللعبة الداخلية. وليس رئيس الحكومة نجيب ميقاتي من سيفرّط بعلاقته مع الحزب بتأخير تشكيل حكومة سيكون له بسببها موقعه المتقدم عربياً ودولياً في ظل الفراغ الرئاسي غير المعروف عمره.
قد تكون بساطة ما يحصل في احتمالات حصول حلول جزئية إجراء غير اعتيادي في بلد اعتاد الوصول إلى تسويات عبر إنهاك كل القوى، أو عبر مشاحنات وتوترات أمنية توصل إلى ترتيبات موقتة. إلا أن حجم المخاطر ربما شكّل عنصراً مساعداً في لجم محاولات تعقيد الشروط الحكومية، وهذا يساعد حزب الله في الانتقال من مرحلة إلى أخرى إقليمية ودولية بأقل قدر من الإرباكات. فالتسوية البحرية لم تنته فصولها بمجرّد الاتفاق، إذ ثمة طريق طويل سيكون الحزب ولبنان معنيين به، ولن يكون من السهل التعامل معه من دون غطاء داخلي تؤمنه الحكومة، كما تؤمن الغطاء لكل ما هو مقبل عليه لبنان من رزمة تحديات تتعلق بالوضع المالي والنقدي. وفي هذا الجانب فإن للحزب مصلحة في أن يكون طرفاً مساعداً في تسهيل منافذ التطبيع الداخلي. لا سيما أنه منذ مدة لم يقفل أي باب حوار خارجي، لا بل أصبح متجاوباً مع كل ما يطرح عليه من أفكار من خارج الحدود اللبنانية، وهو موقف لافت، في وقت تبدو أبواب الأزمة الداخلية الكبرى موصدة أمام حلول نهائية. مع ذلك، تبقى رئاسة الجمهورية عصية على أي تفاهم وحوار رغم كل الضغوط التي مورست بدءاً من نيويورك إلى باريس والرياض.