كتب جوني منيّر في “الجمهورية”:
إنتخابات حاسمة في بلدين يتزامنان مع بدء الشغور الرئاسي في لبنان. الانتخابات الاولى هي في اسرائيل حيث الازمة السياسية تبدو مستمرة وسط فشل كتلة احزاب اليمين بزعامة بنيامين نتنياهو من الاتجاه لتحقيق فوز مضمون وصريح واقتناص الاغلبية المريحة وفق آخر الاستطلاعات.
وفي المقابل فإن يائير لابيد، الذي اجتاز «امتحان» ترسيم الحدود البحرية مع لبنان من دون أضرار، يسعى لرفع مستوى المشاركة لدى العرب الاسرائيليين والتي تبدو حتى الآن في ادنى مستوياتها منذ سنوات عدة وتبلغ حوالى 40%، وهو ما قد يهدد فرَص عودة الائتلاف الحكومي الحالي.
أما الانتخابات الثانية والتي ستجري في 8 تشرين الثاني، فهي الانتخابات النصفية الاميركية لانتخاب جميع اعضاء مجلس النواب البالغ عدددهم 435 عضواً، و34 عضواً من اصل 100 في مجلس الشيوخ و36 حاكم ولاية من اصل 50، ومئات المسؤولين في مختلف المواقع المهمة في جميع الولايات.
وبعدما نجح الحزب الديموقراطي نهاية الصيف الماضي في تحسين مواقعه الشعبية، عاد التراجع من جديد ليهدد الاحتفاظ بالاغلبية النيابية وربما ايضا بالاغلبية البسيطة في مجلس الشيوخ، وهو ما سيعني في حال خسارة اغلبية مجلس النواب لوحده، تعطيل قدرات ادارة بايدن ومحاصرتها مالياً في ظل الاجواء المتشنجة الموجودة، طوال السنتين المقبلتين. ولا شك انّ الصفعة الاقوى جاءت من السعودية مع قرارات اوبك + بخفض الانتاج، وبالتالي رفع اسعار النفط وهو ما انعكس سلباً لدى الناخب الاميركي الذي غالباً ما يهتم بأموره الحياتية ولا يكترث للسياسة الخارجية.
وجَهدت السعودية لنفي اي رابط بين قرارها ومساعدة القدرات المالية لروسيا ولكنها في الوقت نفسه لم تنف الاتهامات بأنها تسعى للتأثير على الناخب الاميركي ضد مصلحة الحزب الديموقراطي. وبغضّ النظر كيف ستحسب واشنطن كدولة، القرار السعودي مستقبلاً، الا أن ما حصل يؤشّر لمبارزة سعودية مع الحزب الديموقراطي وليس مع الولايات المتحدة الاميركية.
فعلى الرغم من اللكمات المتبادلة بين ادارة بايدن والسعودية، الا أن العلاقة السعودية مع وزارة الدفاع الاميركية بقيت ممتازة، فعدا كبار الضباط الاميركيين المتقاعدين والذين يعملون بصفة استشارية مع الجيش السعودي، هنالك اكثر من مئتي ضابط اميركي في الخدمة الفعلية ويعملون في مجال التدريب والاستشارة العسكرية مع الجيش السعودي.
ومناسبة هذا العرض انّ اسرائيل قد تبقى في ازمتها السياسية الحادة وهو ما قد يُضاعف من توترها، وان الخسارة الديموقراطية في الولايات المتحدة قد تزيد من حدة الازمة الداخلية ومن تكبيل يدي ادارة بايدن. وبالتالي اهمالها ونسيانها للملف اللبناني المرشح لارتفاع منسوب مخاطره في فترة الشغور الرئاسي. وهنالك من يحسب لذلك ويبني حساباته على هذا الاساس. لكنه يخطئ مرة جديدة، ففي لبنان تتجه الامور بوضوح الى فراغ رئاسي وفي الوقت نفسه الى عدم تشكيل حكومة جديدة او على الاقل منح الحالية ثقة المجلس النيابي. والتبرير لذلك هو الخلاف حول الشروط والشروط المضادة، لكن ثمة من يعتقد ان هنالك قرارا متخذا سلفاً بالتشكيك بشرعية الحكومة لبناء سياسة هجومية في مرحلة الفراغ الرئاسي ترتكز على شرعية دستورية منقوصة للحكومة. وبالتالي، فإن طرح المطالب الوزارية هو المبرر لعدم التفاهم حول الملف الحكومي والذهاب الى الفوضى الدستورية. حتى في حال التوقيع على تشكيلة حكومية فمَن يضمن انها ستنال الثقة او الميثاقية المسيحية؟ ومع بداية شهر تشرين الثاني المقبل، ستسعى حكومة الرئيس ميقاتي لامتلاك قدرة التحرك وملء المساحة الرئاسية الشاغرة رغم تلويح بعض الوزراء المحسوبين على النائب جبران باسيل بالمقاطعة.
سيسعى ميقاتي للتعويض عن ذلك من خلال «اللجوء» الى جهتين مسيحيتين، الاولى هي الجهات الحزبية خارج التيار الوطني الحر والتي يكتفي بموقفها غير المعارض لحكومته بذريعة تجنّب سقوط ما تبقى من هيكل الدولة اللبنانية.
والثانية هي بكركي القادرة على تأمين الغطاء المطلوب، ولكن هذا سيعني ان حال الاضطراب ستبدأ بالتصاعد.
من هنا يفكر الرئيس نبيه بري بالدعوة لطاولة حوار، ولكنه يتمهل كثيراً قبل إشباع الفكرة درساً معمّقاً. فعلى سبيل المثال اذا كانت الدعوات معروفة ومحسومة على المستوى الشيعي وعلى المستوى الدرزي الى حدٍ ما، فكيف سيجري تحديد الدعوات على المستويين السني والمسيحي؟ أما السؤال الثاني فهو: اذا وجّه الرئيس بري دعواته وجرى تأمين الحضور بطريقة او بأخرى، فما هي تبعات الفشل كون احتمالاته اكبر من احتمالات النجاح؟
والسؤال الثالث هو حول ضمان عدم استثمار طاولة الحوار في اطار المزايدات فيما الاجواء تنافسية حادة وحامية الى ابعد الحدود في الموضوع الرئاسي، خصوصا ان رأس الطاولة سيكون رئيس مجلس النواب الشيعي وليس رئيس الجمهورية المسيحي.
في الواقع من المفترض تجزئة مرحلة الشغور الرئاسي الى قسمين: القسم الاول يبدأ فور خروج الرئيس عون من قصر بعبدا، والقسم الثاني من المفترض ان يبدأ بعد رأس السنة.
في القسم الاول من المفترض فيه ان تسعى الحكومة لتثبيت أقدامها في مقابل تشكيك بشرعيتها وتسعير الخطاب الغرائزي، وقد يجري تحريك الشارع ونقل الفوضى اليه عن سابق تصور وتصميم تحت عنوان المواجهة السياسية ووفق خطاب غرائزي يُلهب المشاعر، وهو ما قد يؤدي الى افتعال صدامات مع الجيش الذي سيكون امام خيار من اثنين. إما الانسحاب من مسؤولية حفظ وبالتالي ترك الفوضى تتصاعد في الشارع، او الذهاب الى فرض الاستقرار وضبط الاوضاع ولَو بحزم. وهو ما قد يؤدي الى سقوط ضحايا وهذا ما يتمنّاه البعض او يخطط له عن سابق تصور وتصميم لِصَرفه واستثماره في اطار إضعاف حظوظ قائد الجيش في الاستحقاق الرئاسي ولو على حساب المواطنين.
اما في القسم الثاني، والذي يبدأ مطلع السنة المقبلة، فليس من المستبعد ان تستعيد العواصم الغربية ولا سيما باريس وواشنطن حضورها الفاعل على الساحة اللبنانية خصوصاً اذا كان مستوى الفوضى في الشارع يتقدم اكثر فأكثر. وبالتالي اعادة فتح الابواب امام فرض حل خارجي ولو بقوة العقوبات والتفاهمات التي من الممكن صياغتها كما حصل في العام 1990، ولو بأدوات ومعايير مختلفة.
وهنا يمكن القول انه صحيح بأن الازمة الداخلية في الولايات المتحدة الاميركية ستكون حادة خصوصا في حال خسارة الحزب الديموقراطي احد المجلسين في الانتخابات النصفية، لكن الملف اللبناني يحظى بإجماع الحزبين الديموقراطي والجمهوري. لا بل انّ «الجمهوريين» اكثر تشدداً في هذا الاطار ما يعني ان اي مستجدات اميركية انتخابية لن تقف حائلاً امام فرض تسوية في لبنان في حال دفع الامور باتجاه الفوضى في الشارع.
ما يعني ان مرحلة الشغور الرئاسي ستشكل اختباراً للارض والاهم للنوايا الحقيقية للاطراف السياسية.
وتروي المصادر الديبلوماسية المعنية ان الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون استدعى منذ فترة غير بعيدة احدى الشخصيات الفرنسية التي عملت الى جانب الرئيس الراحل فرنسوا ميتران في الملف اللبناني. وأراد ماكرون الاستماع الى تجربة المسؤول الفرنسي السابق والاستنتاجات التي خلص اليها. وكان جواب المسؤول الفرنسي السابق بأنه ما كان على ماكرون التورّط في الملف اللبناني كون لبنان كالرمال المتحركة، خصوصا ان الطبقة السياسية ما تزال هي هي منذ ثلاثين عاماً حين تورّط ميتران بملف الحروب التي حصلت ما بين عامي 1989 و1990. واضافت هذه الشخصية الفرنسية بأنّ الوجوه السياسية ما تزال نفسها، وان ذهنية تعاطيها السياسي ما تزال كما هي، لا بل ازدادت شخصانيتها، قائلاً: كما أغرقوا فرنسا في السابق فهم سيغرقون فرنسا اليوم.
وعلى الرغم من هذه النصيحة «السوداوية» لم يبدّل ماكرون قراره بالاستمرار في معالجة الملف اللبناني ولم تخف حماسته لاعتقاده ان الظروف الاقليمية والدولية اختلفت، ولقناعته بأن النجاح في لبنان سيكسبه في الداخل الفرنسي ايضاً.
من هنا فإن الرهان على الازمة الحادة داخل الولايات المتحدة والتعب الفرنسي بسبب اوكرانيا والتوتر داخل اسرائيل، والذي لا يمكن ان ينعكس على لبنان من دون موافقة واشنطن، قد لا يكون في مكانه، والافضل التقليل من الخسائر اللبنانية.