كتب طوني عيسى في “الجمهورية”:
في النهاية، وفي معزل عن الجدل الساخن حول ما جرى، وعما إذا كان انتصاراً للبنان أو انهزاماً، بالتراجع من الخط 29 إلى الخط 23، فإنّ ما حصل قد حصل. والسؤال الأكثر واقعية حالياً هو: عظيم. لا نريد أن «نقتُل الناطور»، ولكن هل «سنأكل العنب»؟
لقد جاء اتفاق الترسيم في وقت حسّاس بالنسبة إلى الإسرائيليين، كما بالنسبة إلى لبنان: هم يريدون ترسيخ حضورهم في سوق الغاز، خصوصاً في لحظة الحاجة الأوروبية الماسّة إلى تنويع الموارد، لمواجهة الشحّ في الغاز الروسي. ولبنان أيضاً يريد الدخول في نادي الدول النفطية، ومواجهة أسوأ انهيار اقتصادي ومالي ونقدي.
مرة أخرى، يجدر السؤال: هل كانت القوى الدولية والإقليمية تشجّع الفساد وطبقة الفاسدين في لبنان، طوال عقود، من أجل إيصاله إلى هذه النتيجة، وربما إلى نتائج أخرى لاحقاً؟
يمكن الركون إلى «نظرية المؤامرة» هذه، وإيجاد المبررات والقرائن بسهولة. لكن هذه الطبقة تدافع عن نفسها طبعاً، وتعتبر أن «المؤامرة» الحقيقية هي الحصار الدولي والإقليمي لها.
وأيضاً، في معزل عن هذا الجدل، هناك نقطة لا تُعوِزها البراهين، وهي أن هذه الطبقة الفاسدة التي أدارت لبنان لعقود ما زالت هي نفسها تتحكّم بمصيره، وستبقى لسنوات. وقد أظهرت في السنوات الثلاث التي وقع فيها الانهيار أنها لم تندم ولم تُراجع نهجها ولم تتراجع ولا تبدو في صدد الاعتراف بالخطأ.
للتذكير، هذه الطبقة هي التي أضاعت على لبنان، بالجهل أو بالعجز أو بالفساد، فرصة التمسّك بالخط 29، أي بإمكان الحصول على حقل شمال «كاريش» الذي يتضمّن كنزاً هائلاً من الغاز بدأ الإسرائيليون اليوم بالاستفادة منه. وهي التي تفرض على لبنان أن يكتفي بحقل «قانا» الذي لا تُعرف كميات الغاز التي يحتوي عليها.
أيضاً، وعلى قاعدة «ما حصل قد حصل»، يمكن السؤال الآن: كيف ستدير هذه الطبقة ثروة الغاز المُحتمل وجودها في «قانا»، ومتى ستبدأ في استثمارها، وبأي حدود من الشفافية؟
أي، هل ستوضع موارد «قانا» في خدمة الدولة والشعب أم ستلحق بعشرات أو مئات مليارات الدولارات التي تمّ نهبها أو إهدارها بسبب الفساد؟ والطبقة التي تجرأت على إضاعة ثروات الدولة والشعب، وما زالت تتجرأ وتتهرب من أي إصلاح، كيف يمكن الوثوق في أنها لن تُضيع الثروات المتبقية؟
ثمة مَن يقول إن القوى الدولية الراعية لاتفاق الترسيم، والتي بها ترتبط شركات التنقيب والاستخراج، ستمارس بعض الرقابة على إنتاج الغاز في لبنان، ما يُطمئن الشعب إلى حدّ ما. لكن هذه الفرضية ليست في محلها.
ففي السياسة، تتصرف الدول براغماتياً. ويكفي القوى الكبرى أن تتجاوب هذه الطبقة مع مصالحها حتى تغمض الأعين عن فسادها. وهذا تحديداً ما فعلته هذه القوى على مدى عقود، عندما كانت تتكارَم على السلطة اللبنانية بالقروض والمساعدات، عبر الحكومات أو البنك الدولي وسواه من مؤسسات مانحة، مع علمها اليقيني بأنّ هذه القروض والمساعدات تتعرض للنهب!
وثمة نماذج كثيرة يمكن التأمل فيها للتثبّت من فاعلية القوى الكبرى في مساعدة الشعب اللبناني، ومنها مثلاً: ألم تبارك هذه الدول نفوذ دمشق في لبنان بعد الطائف؟ وأيضاً: ماذا فعلت هذه الدول لكشف الحقائق في الحوادث الأمنية الكبرى التي شهدها لبنان منذ نصف قرن، وآخرها انفجار المرفأ؟
لذلك، الرهان الوحيد الممكن، لضبط موارد الغاز، هو على الشعب اللبناني نفسه، ومن خلال المؤسسات الدستورية والقوانين، ولا سيما منها الصندوق السيادي الموعود. وإلا فإنّ قوى الفساد نفسها ستتقاسَم موارد المستقبل كما تقاسمت موارد الماضي.
وثمة مَن يقرأ سلباً بعض العلامات التي رافقت التحضير لاتفاق الترسيم. ففيما قام الإسرائيليون بإمراره في المحكمة العليا لكي تُبدي رأيها فيه، سارَع اللبنانيون إلى توقيعه بمجرد أن تَوافق عليه المتفاوضون، مع إصرار أهل السلطة على القول إنه ليس معاهدة ولا يحتاج إلى أي تدقيق لا في المجلس النيابي ولا في القضاء.
في أي حال، وفيما لم ينتظر الإسرائيليون حصول التوقيع حتى يبدأوا الاستخراج، فإن السلطة اللبنانية ما زالت حتى اليوم في طور التحضير للتنقيب، فإذا ظهرت في «قانا» كميات من الغاز مناسبة تجارياً للاستخراج، فستبدأ الورشة بعد 3 سنوات على الأقل، إذا سارت الأمور على ما يرام.
ولكن، يكفي أن يُظهر التنقيب وجود كميات واعدة من الغاز في «قانا» ليصبح ممكناً تحقيق انتعاش في لبنان، بناء على هذا الوعد، وضمن مدى لا يتجاوز العام الواحد. فحتى اليوم، لم يلزّم لبنان سوى البلوكين 4 و9، فيما الباب مفتوح للمزايدة على البلوكات الـ8 الباقية، في مرحلة التلزيم الثانية التي جرى تمديدها حتى 15 كانون الأول المقبل، وبينها بلوكان يرتبطان بالحدود البحرية مع سوريا شمالاً.
حتى الآن، لم يستطع لبنان تحديد المكنونات الغازية والنفطية في مياهه، لأن المسوحات الزلزالية تفيد بتقديرات مبدئية. لكن الخبراء عموماً يُجمعون على أن ثروة لبنان من الغاز والنفط لا تقل عن 500 مليار دولار.
وهذه الثروة ستتوزّع بين حصة لبنان وحصة الشركات. ولكن، في أي حال، إذا أديرت بشكل جيّد، فيمكن أن تشكل فرصة نادرة لانتقال لبنان إلى مصاف الدول الأكثر ازدهاراً في العالم. وعلى أساسها، يمكن بناء اقتصاد حقيقي وقابل للتقدم على مدى عشرات السنين، على أنقاض اقتصاد الفساد الذي قاد لبنان إلى الكارثة.
ولذلك، من حقّ اللبنانيين أن يسألوا: تُرى، عندما يَتحمّس أركان السلطة للترسيم، هل يفكرون في مستقبل البلد أم في مستقبلهم فقط؟