كتب نقولا ناصيف في “الأخبار”:
انضم إلى قاموس الأعراف ما سيدرج بعد الآن بتولي حكومة مستقيلة صلاحيات رئيس الجمهورية عند خلوّ المنصب. بعدما أضحى عدم انتخاب الرئيس مألوفاً عادياً، من شأن العُرف المحدث تقديم تجربة جديدة – وإن مبرّرة دستورياً – ودليلاً إضافياً على نظام يوشك على التحلل.
ما بات معلوماً منذ منتصف ليل أمس الاثنين أن البلاد دخلت في شغور رئاسة الجمهورية وانتقال صلاحيات الرئيس المتعذّر انتخابه إلى الحكومة المستقيلة برئاسة الرئيس نجيب ميقاتي. أما غير المفهوم، وقد أدلى الجميع تقريباً إيجاباً وسلباً بدلوهم في انتقال الصلاحيات واستمرار حكومة ميقاتي، فهو الصمت المستمر لحزب الله. لا يزال غير مفهوم أن لا يأتي الأمين العام للحزب السيد حسن نصرالله في إطلالته الإعلامية الأخيرة الخميس المنصرم (27 تشرين الأول)، عشية انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون، على ذكر المأزق الحكومي بكلمة، وقصر إطلالته المطوّلة أكثر من ساعة ونصف ساعة على مفاوضات ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل، على أهميتها في حسبان الحزب وحساباته.
لأسابيع قليلة خلت، من خلال نصرالله أو قادة الحزب أو نوابه، أفرطوا في المناداة والإصرار على تأليف حكومة جديدة تفادياً لمشكلة دستورية وشيكة. في الساعات القليلة التي سبقت مغادرة عون قصر بعبدا، قيل إن الحزب نجح في الحصول على موافقة النائب جبران باسيل على منح كتلته النيابية الثقة للحكومة الجديدة بعدما قيل قبلاً إن إبدال وزراء بآخرين لم يعد فجوة أساسية. نُقِل عن الحزب كذلك، بعد موافقة باسيل تلك، أن ميقاتي هو الذي لم يُرد سوى الحكومة الحالية المستقيلة بأن يصير إلى تعويمها تحت وطأة الظرف القاهر، وهو انتقال صلاحيات رئيس الجمهورية إليها. دلّ ذلك ضمناً على أن حزب الله لم يُوفَّق في حمل رئيس حكومة تصريف الأعمال على موقف معاكس، ولا الضغط عليه لإرغامه على تقديم تنازل مماثل.
إلى اللحظة يلتزم حزب الله الصمت، وإن بَانَ مذ غادر عون قصر بعبدا أن كفّة الربح مالت – إن لم تكن «طبشت» وهو الأصح – إلى ميقاتي الذي خرج من مواجهة بدأت في 29 حزيران الفائت منتصراً أخيراً. ثمة أمر واقع لا يسع أحداً تجاوزه هو أن الحكومة المستقيلة ستملأ صلاحيات رئيس الجمهورية إلى أن يُنتخب الرئيس الجديد. لم تعد في حاجة إلى فتاوى وحجج دستورية كالتي سيقت في الأسابيع المنصرمة لتبرير الوصول إلى هذا اليوم. الآن ارتسم توازن قوى جديد تحسَّب له سلفاً ميقاتي – في الغالب أصابت حساباته فيه – أنه هو، أكثر منه على رأس حكومته الحالية المعوَّمة، يمثل الشرعية الدستورية الانتقالية الموقتة إلى أن يُنتخب رئيس جديد للجمهورية. سيوقّع من الآن فصاعداً مراسيم مجلس الوزراء، منعقداً أو غير منعقد، عن رئيس الجمهورية غير الموجود وعنه هو، ولن يحتاج سوى إلى توقيع الوزير المختص أو الوزراء المختصين إلى جانبه:
1 – يتسلح بوقوف طائفته ومرجعيتها الدينية كما نوابها إلى جانبه في تولي الحكومة المستقيلة صلاحيات الرئيس، مزيداً إليها نصف الثنائي الشيعي وهو الرئيس نبيه برّي ووليد جنبلاط، إلى أكثر من نصف المسيحيين الموزَّعين على حزبي القوات اللبنانية والكتائب وسليمان فرنجية. هؤلاء جميعاً اعترفوا سلفاً، قبل الوصول إلى هذا اليوم، بحلول حكومته في صلاحيات رئيس الجمهورية. الأهم أنهم جميعاً الخصوم المباشرون لعون والتيار الوطني الحر. ذلك ما يبرر، سواء صدّقوا الحجج والفتاوى الدستورية أم لا، أن يكونوا في المقلب المناوئ للرئيس المغادر لتوّه ولايته. مع أنهم يتمسكون بأولوية انتخاب الرئيس، إلا أن المفاضلة الراهنة في مكان آخر.
2 ـ سواء كان ينتظر صدور مرسوم قبول استقالة حكومته أو فاجأه في اللحظات الأخيرة، تحوّط ميقاتي للدور الذي يريده لها وتفادي إظهار انقسامها وانشقاقها. لن يدعوها إلى أي جلسة قاصراً إدارتها على اجتماعات مع وزرائها فرادى، وإمرار مراسيم وقرارات بالمفرّق دونما الجلوس إلى طاولة مجلس الوزراء.
3 ـ صمت حزب الله في الأيام الثلاثة المنصرمة فُسَّر على أنه رضى ضمني على المرحلة الجديدة كي يوازن بين تسليمه بأن لا خيار لملء الشغور سوى بحكومة ميقاتي، وفي الوقت نفسه التضامن مع حليفه الرئيس السابق والتيار الوطني الحر: لا يريد أن يخسر عون وتياره، ولا أن يقطع مع ميقاتي ما دام يحتاج إليه كشريك سنّي وإن ينظر إليه بريبة. مفتاح هذا التوازن أن حزب الله لن يدعو وزيريه والوزراء حلفائه – باستثناء الوزراء الثلاثة لحركة أمل – إلى حضور جلسات مجلس الوزراء إذا دعا إليها ميقاتي، فيما الواقع أن رئيس الحكومة أعفى نفسه سلفاً من هذا الإحراج.
4 – يريح حزب الله أن لا يقع تعثّر تأليف حكومة جديدة في خانته، وهو تالياً لا يتحمّل مسؤولية إخفاق المحاولة الناجمة عن النزاع المقصور بين عون وباسيل من جهة وميقاتي من جهة أخرى. ليس صمته إلا جزءاً من عدم مسؤوليته. أما الجانب غير المُقال في ما يسعه أن يفعل، وهو قوته الفائضة في النظام وفي الشارع في آن، فلا يملك حزب الله سوى القول إنه فشل في انتزاع تنازلات من ميقاتي. بيد أن الأهم، ربما يعبّر عن احتراف في الأداء، تعويل رئيس الحكومة المستقيلة على رئيس البرلمان في فرض الأمر الواقع الجديد، دونما أن يتسبب في تباين بين برّي وحزب الله.
ليس خافياً أن طرفي الثنائي الشيعي واحدٌ في الخيارات الاستراتيجية لا سيما منها المقاومة، بيد أنهما ليسا كذلك في ملفات الداخل التي تفترض أحياناً تضارب المصالح والمواقف والحسابات. ليس الموقف من عون، عند انتخابه كما عند انتهاء ولايته، إلا أحد وجوه التمايز الأطول عمراً. لم يسع حزب الله أن يفرض على رئيس المجلس انتخاب عون قبل ست سنوات، بيد أن برّي سارع على أثر إبرام التسوية وقتذاك إلى تحديد موعد جلسة الانتخاب دونما أن «يبلع» انتخاب الرجل فصوّت ضده وناوأه في السنوات الست من ولايته.
ما حدث آنذاك استكمل في الأيام الأخيرة بأن يكون رئيس المجلس طرفاً أساسياً وعلنياً في المواجهة التي خاضها ميقاتي لحرمان عون وباسيل ما يمكّنهما من امتلاك فيتو في حكومة جديدة على غرار تجربة حكومة الرئيس تمام سلام.