كتبت فاتن الحاج في “الأخبار”:
…وتشاء العناية الإلهية أن تمنع مجزرة كادت أن تقع، فتقتصر الجريمة على مقتل طالبة بعمر الورد تحت جسر هبط عليها من سقف صفها، وجرح صديقتها، فيردّ المسؤول الأول عن التربية، الذي يملأ، منذ توليه الوزارة، الشاشات بحضوره متكلّماً عن إنجازاته: إنّه القضاء والقدر!
فلو أنّ هذه الحادثة حصلت في بلد آخر، كيف كان سيتصرّف مسؤولو التربية فيه؟ فمن مشهد الصف المنكوب، إلى كتب التربية والتنشئة المدنية المبعثرة والملوّنة بدماء ماغي محمود، نعلم أن لا إنجاز حقيقياً في قطاع ينخره الفساد. ولم يعد خافياً أن التعليم الرسمي يحتضر، إذ يجبر الأساتذة على العودة براتب متوسطه 100 دولار، في أحسن الأحوال، من دون بدل نقل منذ شباط 2022، والتلامذة يدرسون بلا كتب، وصناديق المدارس فارغة، والبنى التحتية مرحّبة بالكوليرا… ومئات المباني متهالكة.
ليس أسهل من «تلبيس» مدير المدرسة الرسمية مسؤولية أيّ حادث يحصل في مدرسته. هو الحلقة الأضعف في أخطبوط الفساد في وزارة التربية. وفوق ذلك، يُكتم صوته ويُمنع بحجة قانون الموظفين، من التصريح إلا بإذن لا يُعطى له. «بعتذر من حضرتك، ما في أي موافقة للتصريح للصحافة»، كان هذا ردّ نجوى شتوي، الناظرة العامة القائمة بأعمال إدارة ثانوية القبة الثانية الرسمية أو ما يُعرف بـ»مدرسة الأميركان» في جبل محسن التي شهدت فاجعة مقتل الطالبة ماغي محمود. كان هذا أيضاً حال مسؤولة لجنة الهندسة في الوزارة، مايا سماحة، إذ أشارت إلى أنها لا تستطيع أن تدلي بأي معلومات من دون أخذ الإذن من الإدارة التربوية، وليس لديها، في كلّ الأحوال، ما تقوله لكون ترميم المبنى جرى قبل تسلّمها مهامها في الوزارة وهي لم تعاينه عن قرب حتى اللحظة. الإدارة التربوية من مدير عام للتربية ومدير تعليم ثانوي، لم تجب على اتصالاتنا المتكرّرة ورسائلنا النصية للاستيضاح عن حقيقة ما جرى في ثانوية زارها وزير التربية في آذار الماضي.
متاهة الترميم
صمت مريب أعقب الفاجعة في انتظار نتائج تحقيق يُخشى أن يُفلت «المرتكبون» في نهايته من المحاسبة والعقاب و»تطلع براس المدير»، في وقت قفزت فيه إلى الأذهان أسئلة عن مفارقة تفاخر الوزير بـ»إنجازات وهمية» وإعطائها الأولوية في صرف الأموال، فيما يحتاج القطاع التربوي الرسمي إلى كلّ قرش لتسيير عام دراسي «ماشي بطلوع الروح».
ما حدث في جبل محسن يمكن أن يحدث في أيّ وقت وفي أيّ منطقة، ولا يجب أن يمرّ هكذا من دون الإضاءة على المعاناة الفعلية للمدارس والثانويات الرسمية. هذا ما يتداوله مديرون بـ»الهمس» ولا يجرأون على قوله في العلن في بلد «كمّ الأفواه». يروون عشرات الحوادث عن «متاهة» الترميم. ليست المشكلة، كما يقولون، في الأموال التي تُرصد لهذا المكوّن الذي يلقى دعماً من الجهات المانحة والمنظمات الدولية، إنما في المعايير العلمية التي يجري على أساسها اختيار هذا المبنى دون ذلك. ثمة استنسابية ثير الدهشة، يقول أحد المديرين، إذ يمكن أن تُرصد أموال لتأمين الرفاهية في مدرسة، ولا تضرب ضربة واحدة في مدرسة أخرى تعاني من وضع هندسي خطير. «أما الصيانة السنوية البسيطة فغير جذرية ولا تدوم لأكثر من سنة. الـNGOS والمتبرّعون يفرضون الأعمال، وهم يبحثون عن مدرسة لا تتطلب عناء كثيراً ويمرّكون فيها الإنجاز». اللافت ما يقوله أحد المديرين في الجنوب عن مدارس رمّمتها منظمة «اليونيسف» كانت جدرانها «تنش» صارت «تدلف»، فيما روى مدير في الشمال حادثة حصلت في مدرسته، حيث زارته إحدى الجمعيات عارضة تأهيل أحد المراحيض، في حين زارته جمعية أخرى في العام الذي يليه لتعرض عليه استعدادها للقيام بالعمل نفسه. وفي مجال آخر، قال إنه أبلغ الوزارة منذ أكثر من 5 سنوات أن مدرسته تحتاج إلى ترميم، والسلامة العامة فيها بخطر بناءً على تقرير مهندسين استقدمهم على نفقة صندوق المدرسة، وأرسلت الوزارة لجنة تأكدت من صحة هذا الواقع وأدرجت اسم المدرسة على لائحة الترميم الشامل، وأتى المتعهدون المشاركون في المناقصات وكشفوا على المكان ورسموا الخرائط وحتى الآن لم يحصل الترميم واستُبدل بالترقيع، ويمكن أن تكون هذه الحالة متكررة في أكثر من مدرسة.
المانحون يفرضون شروطهم
تسرح الجهات الدولية ووكلاؤها المحليون ويمرحون، داخل المدارس بلا حسيب أو رقيب وسط قصور لجنة المهندسين التي تضم 3 موظفين فقط عن متابعة الملفات الكثيرة، فيما يوقّع مدير المدرسة على تسلم الأعمال على مسؤوليته الخاصة وتكون «آدميته» هي الحكم!
لا أحد يعلم من يشرف على نوعية أعمال الترميم والصيانة التي يتولاها المتعهدون والملتزمون والجمعيات في منشأة بهذا الحجم، في وزارة التربية؟ ومن يتسلمها بعد إنجازها ويتأكد من مراعاتها للمواصفات والشروط؟ وكيف يكون المدير مسؤولاً، وهو غير مؤهّل هندسياً ولا علاقة له بهذا العالم؟ ولماذا لا يجري التعاقد مع جهة استشارية محايدة في كل محافظة تراقب الأعمال؟
في المبدأ، يفترض أن يرفع مدير كلّ مدرسة، إلى المدير العام للتربية عبر المنطقة التربوية، في نهاية كلّ عام دراسي تقريراً مفصّلاً عن حال البناء المدرسي ووضعه والحاجات الضرورية للترميم، وآخر ترميم نُفّذ. لكن رفع التقرير لا يعني أن الكشف الميداني سيحصل فعلاً، وإذا حصل الكشف، فهذا لا يعني أن الترميم واقع لا محالة. ثمة شعور لدى بعض المديرين أن الأوراق التي يرفعونها، سنوياً، تُرمى في الأدراج ولا تجد من يقرأها.
أما إذا تُرك الأمر للمدير ليدبّر نفسه بنفسه، فليست بيده حيلة، وإذا افترضنا أنه يعي فعلاً أن هناك واقعاً يحتاج إلى معالجة، فإن سقف الإنفاق لديه لا يتجاوز 3 ملايين ليرة وهي لا تكفي لتصليح شباك مكسور، وإلا سيحتاج الأمر إلى استدراج عروض أسعار ومناقصات. يقول أحد المديرين :»خنقونا ويقولون لنا افعلوا المعجزات، وممنوع أن تطلبوا مساعدة»!