كتبت هيام القصيفي في “الأخبار”:
علاقة حزب الله واتفاق الطائف، الذي لم يشارك الأول فيه، لا تزال ملتبسة في نظر خصومه. بين دعوة الحزب الى الحفاظ عليه وتنصّله من أيّ محاولة لتغييره، ثمّة ضبابية في التعامل مع الاتفاق حين تصبح مشكلات لبنان لا تتعلق حصراً بالطائف.
هل تكمن مشكلة لبنان الحالية فقط في عدم تنفيذ اتفاق الطائف على أهمية ذلك؟ وهل توقيت رد حزب الله على اتهامه باستخدامه فائض القوة في جعل الأعراف أقوى من النص الذي يحضر مجدداً في المشهد السياسي؟
هذا السؤال طُرح في أوساط سياسية رافقت مسار اتفاق الطائف ودافعت عنه وضرورة التمسك به، ولا سيما في الوسط المسيحي. لكن النقاش الحالي الذي أعاد الاتفاق الى الواجهة من أبواب عدة، أميركياً وسعودياً وأوروبياً، يفترض أن يأخذ أبعاداً عدّة في نقاش متعدد الجوانب حول ديمومة الاتفاق والتشبث به، كجزء أساسي في مسار الحياة السياسية. لكن أيضاً من باب واجب التعامل بواقعية مع كل المشكلات الجوهرية الأخرى التي يعانيها لبنان في الوقت الراهن.
وهنا يكمن واقع ما تحدّث عنه الأميركيون من أنّ أيّ مسّ بالاتفاق يعني الخوف من تحوّل لبنان الى لبنانات. والواقع أن هذا الخوف ليس أميركياً فحسب، ولا يتعلق باتفاق الطائف وتنفيذه حصراً. كل المؤشرات العملانية والدراسات الميدانية في بعض المجتمعات اللبنانية تتحدث عن فقدان النسيج اللبناني خيوطه المترابطة. هذه حال المجتمعات الحالية واقعياً، سواء جرى التعبير عنها بنزعات وفورات طائفية ودينية مسيحية أو إسلامية، وردود فعل طائفية كما يحصل أخيراً في عدد من المناطق، أو مظاهر اجتماعية او ميليشيوية، وبالحد الأقصى كلام عن أنماط جديدة كالفيدرالية أو اللامركزية الإدارية الموسعة مالياً وإدارياً. وهذا الأمر لا يتعلق فقط بعدم تنفيذ اتفاق الطائف منذ عام 1990.
هناك كمّ من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تراكمت على مدى سنوات، لا تنحصر في جوانب أغفل عنها قصداً أركان الطبقة السياسية في ظل الوجود السوري وبعده. فالانقسام الذي حصل بعد عام 2005، ولا يزال، في مواجهة حزب الله، يتناول كذلك قفز الحزب فوق الاتفاق بالمعنى الحرفي للنص. ويكشف في المقابل جوانب أساسية من تحلّل المجتمعات اللبنانية طائفياً وداخل الطوائف نفسها بحيث يشكّل الانقسام الأفقي واقعاً ملموساً، وخصوصاً في ضوء الانقسام حول توصيف الأزمة اللبنانية المتفاقمة وارتباطها بواقع الانقسام بين محورين: إقليمي ودولي. إضافة الى أنه بعد كل التدهور الاقتصادي والفساد المستشري الذي حوّلته الطبقة السياسية إلى أسلوب عيش، ما أدى الى إفقار اللبنانيين وانهيار البنى التحتية، يفترض البحث الجدي عن عمق الأزمة التي تحتاج الى مقاربة مالية واقتصادية في موازاة الاهتمام بالحفاظ على اتفاق الطائف.
وهنا يمكن الانتقال الى الجزء الثاني المتعلق بحزب الله، الذي لم تكن عادته المبادرة الى الرد على اتهامه بنقض اتفاق الطائف. إذ ليست المرة الأولى التي يجري فيها الحديث عن الاتفاق – الضرورة، وهو كلام عمره سنوات، تزامناً مع مؤتمرات حوارية عقدت خارج لبنان، ونقاشات فرنسية – إيرانية حول الاتفاق الذي رعته السعودية.
ومنذ زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للبنان، بعد انفجار المرفأ، وكلامه عن النظام اللبناني، ودعوات داخلية صدرت عن بكركي قبل أن يقفل الباب عليها حول عقد لبناني جديد، تجدّد الكلام عن مصير هذا الاتفاق الذي تراوح تطبيقه بين التزام بالنص وبين أعراف طُبّقت على مدى سنوات الوجود السوري في لبنان وحكم الترويكا، قبل أن يصبح حزب الله في عين الانتقادات بعدما فتح موضوع المثالثة. والمفارقة اليوم أنه مع الكلام المتجدّد عن الطائف ومحاولة باريس التنصّل من أي محاولة لتعديله، دخل الحزب على خط الموجة الجديدة، رغم أنه في العادة كان يتفادى التعليق على اتهامات طاولته. وبالحد الأقصى كان كلامه في بعض المناسبات مختصراً ومحاولاً إبعاد الاتهامات عنه.
بالنسبة الى سياسيين رافقوا مسار الحزب في تعاطيه مع الاتفاق، عن التوقيت الحالي الذي يجعل الحزب يردّ على اتهامات تصوّب عليه، هو أن الحزب اليوم يتصرّف من منطلق المناسبة التي أعادت تعويم الطائف، لأن الكلام الدولي وليس الإقليمي فقط جدّي، وهو أمر قد يكون مطروحاً بقوة على أي طاولة مفاوضات حول الوضع الداخلي، والحزب اليوم يرى في موقفه مصلحة تتعلق بتهدئة صورته وموقعه بعد فتح أقنية تهدئة واتصالات خارجية. ثانياً، إن الحزب يتصرف من منطلق قوة في عدم رغبته بتعديل الاتفاق. ما طبقّه الحزب ومعه الثنائية الشيعية، هو تكريس أعراف خارج النص، تحوّلت مع مرور السنوات الى أمر واقع. تماماً كما تصرّف الفريق السني في تعاطيه مع موقع رئيس مجلس الوزراء من خارج النص، وليس مع مجلس الوزراء ككل. هذا الأمر يعطي للحزب حصانة في تصرفه مع نفي محاولته تعديل الاتفاق، مع أن أي تعديل سيكرّس له في النص مكتسبات حصل عليها منذ سنوات. لكن التوقيت لا يبدو اليوم مناسباً للدخول في متاهات، هو في غنى عنها، وهو الذي في مرحلة لبنانية يتصرف فيها من موقع الأكثر حضوراً ونفوذاً، فيما يتراجع دور المواقع والطوائف الأخرى، بين فراغات رئاسية متتالية وحكومة تصريف أعمال، وتناحر داخلي وانقسامات سياسية وحزبية.
من هذا الموقع، أيّ فائدة للحزب في الدخول اليوم في معمعة تجلب له نقمة خارجية ولا تعطيه أكثر مما هو حاصل عليه داخلياً؟