كتب طوني عيسى في “الجمهورية”:
في توقيت بالغ الدقة، جاءت مطالبة البطريرك بشارة الراعي مجدداً بعقد مؤتمر دولي «لإنقاذ لبنان». ويتحدث البعض عن معطيات داخلية وخارجية مثيرة للقلق على الكيان، تكاملت لدى بكركي، ودفعتها إلى الاستنفار.
ليست جديدة دعوة الراعي إلى المؤتمر الدولي. ففي آب 2020، بعد انفجار المرفأ، أطلق وثيقته لـ«الحياد الناشط» واقترح تدويل هذا الحياد بإقراره في الأمم المتحدة. وفي شباط 2021، دعا المنظمة الدولية إلى أن تأخذ على عاتقها مهمَّة تنظيم المؤتمر، «لإعادة تثبيت وجود لبنان ومنع سقوطه».
في تلك المرحلة، كان المناخ الدولي مختلفاً. فالمفاوضات كانت في ذروتها بين الولايات المتحدة وإيران حول الملف النووي، ولم تكن أوروبا قد انشغلت في حرب أوكرانيا. وكان الفرنسيون في أقصى استنفارهم لتجنيب لبنان الأسوأ مالياً واقتصادياً وسياسياً. وأطلق أركان إدارة إيمانويل ماكرون تحذيرات متكرّرة من مخاطر المرحلة الآتية على لبنان، واستخدموا توصيف «تحلُّل لبنان» أو «زواله»، نتيجة نزاعات القوى الإقليمية والدولية على أرضه.
هذه المناخات التي وصلت إلى بكركي حينذاك، كانت دافعاً إضافياً لها لكي تطالب بمؤتمر دولي يقرُّ حياد لبنان، خصوصاً بعد انتقال الإدارة الأميركية من دونالد ترامب الصدامي مع أوروبا إلى جو بايدن الساعي إلى استعادة التنسيق مع الحلفاء الأوروبيين. لكن ظروف انعقاد المؤتمر الدولي لم تكن ناضجة.
وفي الأسابيع الأخيرة من عهد الرئيس ميشال عون، بدا حتمياً الدخول في وضعية فراغ رئاسي، مشفوعة بحال تصريف أعمال حكومية وشلل تشريعي. وأوحت المعطيات بمزيد من الانهيارات المالية والسياسية والاجتماعية، وربما الأمنية.
وأيقن كثيرون أنّ التسويات البسيطة لم تعد ممكنة، وأنّ الوضع يقتضي إعادة صياغة كاملة لقواعد إدارة السلطة، برعاية دولية وإقليمية.
وفيما كانت المفاوضات لترسيم الحدود البحرية جنوباً تتقدَّم، ساد اقتناع بأنّ الاتفاق يتمّ «في الشكل» مع السلطة اللبنانية الرسمية، لكن صاحب القرار الفعلي، الذي منح الاتفاق ضوءاً أخضر، هو «حزب الله» الذي سيستثمر هذا الانتصار لتكريس دورٍ أقوى له، وللمكوِّن الشيعي عموماً، في تركيبة النظام والسلطة.
وفي عبارة أخرى، ساد انطباع بأنّ «الحزب» الذي سهَّل التوصل إلى اتفاقٍ على تقاسم الطاقة، يحتاج إليه الغربيون في اللحظة الحرجة، سيكافأ بتبديل أسلوب التعاطي معه من العقوبات إلى المكافآت، وبالاعتراف بموقعه المتقدّم داخل السلطة.
ومن الأدلة إلى ذلك، أنّ الأمين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصر الله، بعدما حدَّد سقف العرض والطلب في مفاوضات الترسيم، عمد أيضاً إلى تحديد العرض والطلب في ما يتعلق بملف رئاسة الجمهورية التي هي الموقع المسيحي الأول داخل مؤسسات السلطة.
واليوم، يتنافس المرشحون الموارنة للرئاسة ليحظوا بدعم الثنائي الشيعي. وبمجرد أن يحصل أحدهم على هذا الدعم، فإنّه يضمن حسم المعركة لمصلحته. وفي نظر البعض، أنّ دعوة الرئيس نبيه بري إلى تنظيم حوار داخلي، في هذه الظروف، تكرّس الواقع القائم، وأما نقل الحوار إلى إطار المؤتمر الدولي فيمكن أن يحرّره من ضغوط الداخل لتأتي التسوية أكثر توازناً. وهذه هي نظرة بكركي أيضاً.
لكن النقاش حول مستقبل لبنان وموقعه الإقليمي سيبرّر لبعض القوى أن يفتح ملف اتفاق الطائف، سواء بإعادة النظر فيه أو استكمال تنفيذ بنوده، بما في ذلك قاعدة «المناصفة» التي يقوم عليها. وإذا تمّ وضع «الطائف» على الطاولة، فأي بديل سيولد في ظلّ توازنات القوى التي استجدت في العقود الثلاثة الأخيرة، والتي برز فيها خصوصاً نفوذ القوى الشيعية؟
وفي عبارة أخرى، هل يسمح الظرف بولادة اتفاق وطني متوازن وكفيل بإعادة الاستقرار، أم إنّ الاتفاق العتيد، الذي ستفرزه توازنات القوى القائمة، سينطوي على اختلالات جديدة تقود إلى مآزق جديدة؟
فالمكون المسيحي هو الأكثر إرباكاً في التعاطي مع «الطائف» وطريقة تنفيذه. فمن جهة، هذا الاتفاق يضمن له حداً مقبولاً من المناصفة يصعب الحفاظ عليه في أي اتفاق عتيد. لكنه، من جهة أخرى، ينتزع جزءاً وافياً من صلاحيات رئيس الجمهورية.
وتدور أسئلة في الأوساط المسيحية عمّا إذا كان مناسباً تطوير النظام تحت سقف «الطائف» أو البحث عن إطار أفضل، علماً أنّ هذا الأمر يبدو مستحيلاً في الظروف الحالية؟
قبل أسابيع، ظهرت ملامح حوار عبّرت عنه الدعوة التي وجّهتها سويسرا إلى لقاء أولي بين القوى الداخلية. ولو نجحت الانطلاقة لكان ممكناً تطويرها، بدعم أوروبي وأميركي على الأرجح، لتتحول مؤتمراً يُعقد في سويسرا أو فرنسا أو أي دولة أوروبية أخرى. لكن السعوديين استنفروا لإحباط أي محاولة لنسف اتفاق الطائف.
وسط هذه المعمعة، الأرجح أنّ البطريرك الراعي يحاول اللجوء إلى المظلة الدولية لتدارك انزلاق لبنان نحو الأسوأ. ولكن، هل يمكن الاطمئنان فعلاً إلى هذه المظلة، حيث غالباً تتحكّم البراغماتية وتقاطعات المصالح؟ وهنا ممكن الخوف على لبنان.