كتبت ندى الملّاح البستاني في “الجمهورية”:
هلّلت بعض الأطراف السياسيّة اللبنانيّة بفتح صفحة جديدة من تاريخ لبنان، لبنان الغاز والنفط، خصوصًا بعد أن أصبح ترسيم الحدود البحريّة أمرًا واقعًا بين ليلة وضُحاها… وبعد أن «راحت السكرة وأجِت الفكرة»، يَعي الغالبيّة أنّ الأمور ليست «كوني فكانت» خصوصًا مع الطبيعة، وما يتعلّق بتقنيّات استخراج النفط والغاز. وسيحتاج لبنان إلى ليالٍ كثيرة قبل أن يستفيد من موارده الطبيعيّة النفطيّة، واستعجال شركة «توتال» في التنقيب والاستخراج لن يُغيّر وتيرة الأمور، وما هي إلّا بضع «ضحوات» حتّى يستفيق الجميع على حقيقة أنّ الاستعجال في الترسيم والتنقيب ليس سوى لتسجيل سبق سياسيّ فارغ، فحواه أنّ ثمّة فريقاً قد انتشل البلد من أزمته الاقتصاديّة والماليّة والسياسيّة، من دون تغييرات ملموسة.
بالعودة في الزمن، ومنذ سبعينات القرن الماضي، تمّ التنبّؤ عن نهاية عصر النفط بنحو متواتر. واعتُقِد أنّ هذه النهاية ستسبقها ذروة في الإنتاج تُسمّى «الذروة النفطيّة»، من ثمّ يليها ارتفاع كبير في سعر البرميل. وفي العام ٢٠١٠، أعلنت وكالة الطاقة الدوليّة، أنّه سبق أن تمّ الوصول إلى هذه الذروة في العام ٢٠٠٦. ومع ذلك، وبعد ستّة عشر عامًا، يستمرّ ازدياد انتاج النفط عالميًّا، وقد عاد سعر برميل النفط إلى انخفاض بعد أن سجّل رقمًا قياسيًّا في العام ٢٠٠٨، لذلك تبدو تلك النبوءة غير دقيقة في تحديد مستقبل النفط.
فعادةً ما يتمّ التنبؤ بمسار إنتاج النفط، بتقدير الكميّة التي من الممكن استخراجها من باطن الأرض، وكذلك على الطاقة الإنتاجيّة للحقول النفطيّة، وسعر البرميل، فلا يكفي وجود الحقول النفطيّة، بل يجب أن تكون ذات جدوى اقتصاديّة مُربحة لتشغيلها.
إنّ تكلفة استخراج النفط متغيّرة أيضًا، وتعتمد على كلّ من التقدّم التكنولوجيّ، والاستثمارات طويلة الأجل من قبل شركات النفط العالميّة، التي تعتمد بدورها على السعر الحالي للنفط. من ناحية أُخرى، يمكن للسياسات العامّة لدولة ما أن تتحكّم بتوريد النفط واستخراجه من خلال دعم عمليّات إنتاج النفط الجديدة، أو مصادر الطاقة الأخرى، إمّا بالسماح بها أو تقييدها وتأجيلها. لذلك، تؤدّي الدول الكبرى المنتجة للنفط دورًا حاسمًا سواء على صعيد إفراديّ أو متعدّد في عمليّة استخراج النفط وتحديد أسعاره عالميًّا.
ولعلّ أبرز مثال على هذه التغييرات، التي يَصعُب توقّعها، هو الزيادة المذهلة في إنتاج النفط الصخريّ في الولايات المتّحدة الأميركيّة في السنوات الأخيرة. إذ يتطلّب هذا النوع من النفط تقنيّات استخراج تختلف كثيرًا عن عمليّات الاستخراج التقليديّة، وقد تعرّضت هذه الطريقة للانتقادات والشكوك حيال أثرها البيئيّ السلبيّ. ومع ذلك، فهي أعادت للولايات المتّحدة الأميركيّة إمكاناتها في استعادة كميّات إنتاجها كما عهدت قبل خمسين عامًا، أي في العصر الذهبيّ للنفط.
علاوة على ما ذُكِر، يعتمد تقدير هذه الكميّات المستخرجة من النفط والغاز على القضايا الجيوسياسيّة. بالإضافة إلى أنّ بعض المنظّمات (مثل مجموعة مراقبة الطاقة Energy Watch Group) تعتقد أنّ دول الخليج مثل المملكة العربيّة السعوديّة، تبالغ في تقدير احتياطاتها، لأنّ تحديد مستوى السعر جزئيًّا يتعلّق بحجم الإنتاج الذي تحدّده منظّمة البلدان المصدّرة للنفط (أوبِك). وبالتالي، فإنّ الحفاظ على سعر البرميل منخفضًا بنحو مصطنع عن طريق زيادة الإنتاج، يمكن أن يحدّ من الاستثمار، ويمنع ظهور المنافسين.
بسبب جميع هذه الأسباب المذكورة، فإنّ إنتاج النفط متقلّب، ومن الصعب التنبؤ بحركته المستقبليّة. كما أنّ دور بعض البلدان يتبدّل بدوره بسرعة. فعلى سبيل المثال، خفَّضت الولايات المتّحدة الأميركيّة وارداتها واعتمادها على النفط المستورد من دول الخليج في السنوات الأخيرة، والآن نراها تعاكس سياستها وتلهث وراء النفط الخليجيّ. كذلك إيران، فبسبب العقوبات الدوليّة، فإنّ تصديرها للنفط يتفاوت في الفترة الواقعة بين العامين ٢٠١٥- ٢٠١٨ عندما رُفعت هذه العقوبات نحو مؤقّت.
هكذا، يجد لبنان اليوم نفسه على مفترق طُرق واسع، ليدخل نادي الدول النفطيّة، ولو متدرّجًا من حيث كمّيات الإنتاج ليكون لاعبًا هاويًا في «الدوري النفطيّ». فهو يستفيق ويُضخِّم أحلامه بعد خمسين سنة منذ أن دُقّ ناقوس خطر تدهور عصر الدول النفطيّة، وبعد مَيل كثير من الدول، خصوصًا الأوروبيّة إلى الطاقة المستدامة الخضراء، والخطر الذي يداهم سلامة كوكبنا والانبعاثات الكربونيّة القاتلة. لكنّ من يجد نفسه في قعر الأزمات الاقتصاديّة العالميّة لا بدّ أن يتخيّل الأفضل لانتشاله من يأسه الاقتصاديّ.
إنّ ما سيتمّ من اتفاقيّات موقّعة بين الحكومة اللبنانيّة ودول الجوار لترسيم الحدود البحريّة من ناحية، أو الشركات العالميّة المنقِّبة للنفط من ناحية أُخرى، سيُعتبر خطوة في الاتّجاه الصحيح عموما، لكنّها لن تعني أنّ لبنان أصبح دولة نفطيّة-غازيّة في هذه الآونة. فلبنان سينتظر طويلًا ليتأهّل ويكون من مصافي الدول التي تعتمد في ناتجها المحلّي على النفط. إذ سيستغرق إنتاج الغاز من قاع البحر الأبيض المتوسّط ما لا يقلّ عن أربع إلى ستّ سنوات إن افترضنا أنّ عمليّات الاستخراج ستُباشَر مع كتابة هذه السطور، وعدم حدوث أيّ تأخير من جانب السلطات اللبنانيّة، وسدّ الفراغ الرئاسيّ والحكوميّ، وإن غَضضنا الطرف عن سوء الإدارة والفساد اللذين يستشريان في الكيان الحكوميّ منذ عقود، ويطغى عليه طابع الصفقات المشبوهة، والمصالح الضيّقة.
إنّ إيرادات الغاز من حيث الأرقام مُغرية جدًّا، وهي كفيلة لإخماد احتجاجات كثيرين وتذمّرهم، وتلوين كوابيس آخرين باللون الورديّ، لكنّها طبعًا إيرادات طويلة المدى. فالسؤال الذي يُعاد طرحه في كلّ يوم، ومع ازدياد الانحدار الاقتصاديّ، ماذا نفعل باحتياجات اللبنانيّين على المدى القصير؟ ونقول لمَنْ أعلن الفوز، وأطلق الشعارات التي نقلت في ليلة وضُحاها لبنان إلى مصافي الدول النفطيّة، انّه ما زال من السابق لأوانه إعلان هذا النصر. فكما أنّ تكوّن الغاز الطبيعيّ لا يحصل في يوم وليلة، لن يكون لبنان دولة نفطية-غازيّة على طريقة ألف ليلة وليلة. فلكلّ عهد سِمة، ولن يكون لهذا العهد سِمة الازدهار… فمهما حاول بعضهم، لا يمكنهم خرق قوانين الطبيعة، وعلينا أن ننتظر قبل تحقيق الانتصار، وأن نبدأ بالعمل على خطوات موازية تدعم الاقتصاد اللبنانيّ الكلّي.
علاوة على ما ذُكِر من صعوبات وحقائق، يمكن للبنان أن يكسب أكثر من ١٠٠ مليار دولار أميركيّ، من عائدات الغاز الطبيعيّ على مدى السنوات العشرين المُقبلة إذا ثبُتَت صحّة تقدير الموارد المحتملة، وهي التي تُقام بحسب الأبحاث العلميّة، لا الميول السياسيّة، وفقًا لتقرير يستند إلى المسوحات الثلاثيّة الأبعاد التي أجرتها شركة سبيكرتوم، وشركات أُخرى من الخارج. كما توقّعت الدولة اللبنانيّة ثلاثة أنواع من مصادر الدخل. وإجمالًا، تتطلّع الحكومة اللبنانيّة إلى جَني ٦٠ ٪ من الأرباح مقابل ٤٠ ٪ تعود للمقاولين.
فمنذ العام الأوّل للإنتاج، ستبلغ عائدات النفط والغاز 8 مليارات دولار أميركيّ، وهي بحدّ ذاتها تُعتبر دفعة حقيقيّة للناتج المحلّي الإجماليّ للبلاد. وخلال عقدين من الزمن، يمكن أن يَدرّ استثمار النفط والغاز اللبنانيّين ما يُقدّر بحوالى ١١٣ مليار دولار أميركيّ. وهي مكاسب غير متوقّعة من شأنها إبطاء ارتفاع الدين العامّ بوجهٍ ملحوظ. تبقى هذه الأرقام افتراضيّة، لأنها في الواقع تتأثّر بسعر البرميل المتأرجِح، وانّ النتيجة الأولى لاستخراج النفط والغاز بكميّات أكبر ستؤدّي إلى انخفاض في أسعارهما على مبدأ العرض والطلب.
من ناحية أُخرى، يجب دراسة طريقة الاستفادة من هذا المردود الماليّ، فمن يضمن ألّا يكون مصير الصندوق السياديّ مُشابهًا لصندوق الاحتياطيّ الإلزاميّ، الذي كان لعبة بيد الفئات السياسيّة التي ما زالت تتحكّم بالبلد. فمن سيأبَه للإنفاق على المشاريع التنمويّة، وتحسين المستوى المعيشيّ، إن كان ذلك يعاكس مصالحه الشخصيّة؟
تبعث آفاق الطاقة على أمل كبير داخل المجتمع المدنيّ اللبنانيّ. لن يمكِّن استغلال الودائع جَلب مليارات عدة من الدولارات الأميركيّة للدولة، وبالتالي سداد ديونها العامّة فحسب، بل يضمن مستقبل الأجيال القادمة. ومع ذلك، فإنّ إنشاء الهياكل القانونيّة، والإداريّة، والماليّة التي ينبغي أن تدعمها قد تأخّر بمقدار كبير، ويرجع ذلك أساساً إلى المصالح السياسيّة التي تهتدي بالحلول السريعة، وغير المدروسة، والتي تعتمد على الأثر النفسيّ أكثر منه على الأثر الاقتصاديّ بعيد المدى.
من ناحية أخرى، لن يكون لبنان البلد الوحيد الواعد في مجال الذهب الأسود المتوسّطي. فدول أُخرى في المنطقة مستعدّة بنحو أفضل، ومنذ سنوات، بما في ذلك إسرائيل وقبرص، اللتان تتحرّكان بسرعة على طريق استكشاف ثروتهما الغازيّة الجديدة، بينما يجد لبنان نفسه في أسفل ترتيب الدول النفطيّة الجديدة. ففي حين تتنازع الأحزاب السياسيّة اللبنانيّة، تتحرّك الدول المجاورة إلى الأمام. علاوة على ذلك، فإنّ البلاد بالفعل في طريقها الى خسارة الأسواق الإقليميّة مع الأردن، وقريبًا مع مصر لمصلحة إسرائيل. وما يعيشه العالم اليوم من واقعٍ جيوسياسيّ، أي تزايد الحاجة في أوروبا لبديل عن الغاز الروسيّ، سيكون مغايرًا عندما يبدأ لبنان بإمكانيّة تصدير غازه.
في المستقبل القريب، يجب أن نأمل من الإدارة السياسيّة الوطنيّة فرض احترام الالتزامات التي تعهّدت بها السلطات اللبنانيّة في هذا المجال. بداية، ينبغي اعتماد استراتيجيّة حقيقيّة، وإقامة حوكمة رشيدة، وهياكل إداريّة، وقانونيّة، وماليّة مناسبة. والاستفادة من بصيص الأمل الإيجابيّ، إذ إنّ ترسيم الحدود قد يوحي باستقرارٍ سياسيّ في المنطقة، خصوصًا مع ظهور اهتمام أميركيّ مباشر به، وقد يدفع لبنان إلى تعجيل مسألة الحدود مع قبرص وغيرها من الدول المجاورة.
على أيّ حال، وعلى رغم مع التأخيرات والتعقيدات المتوقّعة لاستكشاف الغاز واستخراجه، يمكن أن ينتقل لبنان من بلد مُثقل بالديون إلى بلد ذو فائض إيجابيّ، فهذا السيناريو من شأنه أن يؤدّي إلى تحوّل كبير في الآفاق الاقتصاديّة للبلاد، ولكن لا يمكن حدوث هذا الأمر إلّا على المدى البعيد. في غضون ذلك، نطرح السؤال على أصحاب القرار: ما هي حلول الطاقة التي يمكن تقديمها إلى اللبنانيّين على أعتاب فصل الشتاء الموعود بأن يكون باردًا ومُكلِفًا؟ وغنيّ عن البيان أنّ احتياجات الدولة في مجال النفط والغاز، وكذلك في مختلف القطاعات التي تُشتقّ عنه ستكون مهمّة جداً على المدى المتوسّط والبعيد، بالنظر إلى واقع أنّه قطاع لم يتمّ استغلاله بعد. أم يبقى لبنان يعيش مرّة على الهِبات الإلهيّة ومرّة على الهِبات الدوليّة؟