جاء في “الأخبار”:
لا مياه للشرب ولا كهرباء في قصر عدل بعبدا. أكوام من النفايات تتجمّع في الزوايا، وعلى الأدراج بقايا طعام في أكياس عفنة. رائحة القذارة تفوح من الحمامات المعطلة بسبب انقطاع المياه وغياب أعمال الصيانة والتنظيف الدورية. لا يختلف حال «قصر العدل» في بعبدا عن غيره من قصور العدل في لبنان، الّلهم إلّا من بعض المشاهد التي توحي بـ«الحياة» رغم انعدام أبسط مقوّمات العمل القضائي. إذ لا قرطاسية، ولا طوابع لاستكمال المعاملات، ولا كهرباء إلّا في النظارة وفي مكاتب بعض القضاة، تم استجرارها قبل فترة بواسطة كابل من مبنى الدوائر العقارية المجاور، تحت وطأة الحاجة لإنارة النظارة التي تحتاج إلى تهوئة مستمرة حفاظاً على سلامة الموقوفين وعناصر القوى الأمنية.
تشير «العجقة»، في الطابق الأول من مبنى قصر العدل في بعبدا، إلى أنّ الحياة عادت إلى المكان. أهال يتجمعون أمام غرفة إحدى المحاكم. يصل آخرون تباعاً. يتفقدون على الفور لائحة ملصقة على اللوح الخاص بالمحكمة، بأسماء الموقوفين الذين ستجري محاكمتهم هذا النهار. يعلو صوت إحدى السيدات بالدعاء: «يا رب فرجك… بدنا نخلص»، تلاقيها دعوة مسنّة لم تسعفها رجلاها على الوقوف، فجلست على كرسي خشبي متهالك: «إن شاء الله بيطلع اليوم». إحداهن تتأبّط ملفاً وتتلفت قائلة: «منيح اسمه موجود على اللائحة. نطرة طويلة، بس المهم جابوه من السجن، هوي جوا. شفتو من الشباك». تدخل امرأة تحمل طفلة على يديها إلى قاعة المحكمة، وتخرج بعد دقائق دامعة بعدما رأت زوجها على قوس المحكمة.
بعد دقائق من وصول الموقوفين من سجون القبة ورومية وزحلة، حضر القاضي، نحو الثانية عشرة تقريباً، وحان وقت بدء المحاكمات. كل الأمور على ما يرام. فُتح باب القاعة وبُدِئ بمناداة الأسماء للدخول إلى القاعة. بعد لحظات، تبدّل المشهد وتبدّدت آمال الأهالي مع تحوّل الجلسات إلى جلسات استجواب تمهيدي، بسبب تغيّب أحد المستشارين واعتكافه عن العمل.
أمام غرف المحاكمات روايات يحكيها أصحابها عن وجع عمره أشهر، بل وسنوات، ليس اعتراضاً على توقيف من يثبت أنه مذنب، ولكن استنكاراً للمماطلة في البت في الملفات وإصدار الأحكام بحق الموقوفين احتياطياً، سواء في نظارة قصر العدل أو في السجون اللبنانية في مختلف المناطق.
تروي سمر، وهي أم لثلاثة أطفال أكبرهم في الـ 11 من عمره، معاناة عمرها خمس سنوات، منذ توقيف زوجها في سجن روميه بسبب ديون في ذمّته. «قد يكون هناك جرم احتيال قام به لتحصيل هذا المال، ولكن هل يعقل أن يبقى 5 سنوات من دون محاكمة؟». تعمل سمر في بيع الخضار لتعيل أولادها وهي غير قادرة على تكاليف توكيل محام لزوجها. كل ما تفعله هو تقديم طلب إخلاء سبيل له بين وقت وآخر.
جاءت سهى منذ التاسعة صباحاً برفقة المحامي لحضور جلسة ابنها الموقوف في جريمة سلب منذ سنة ونصف سنة. حضر القاضي ولكن ابنها لم يحضر إذ لم يجر سوقه من سجن رومية. خاب أمل سهى التي كانت تتوقّع أن يصدر حكم بحق ابنها الذي «يكلفني وجوده في السجن كثيراً. بروح لعنده على روميه كل فترة. ما بحبني اتبهدل، بتركلو كل مرة مصاري بالحانوت حتى يشتري حاجياته. وضعي الاقتصادي صعب، وعم اضطر أتديّن حتى أعطيه، شو بدي أعمل؟».
تخرق المشهد القاتم لأهالي الموقوفين فرحة سيدة تحمل بيدها ورقة إخلاء سبيل ولدها، وهي تصعد على الدرج والبسمة ترتسم على وجهها وكأنها الجائزة الكبرى في اليانصيب. تسبق كلماتها كل من تصادفه: «مشي حال إخلاء السبيل. رح إمضيه وطلّعو على روميه، صرلوا إبني بالسجن سنة بسبب مشكل على موتسيك، المهم خلصنا».
يختلط صوت السيدة مع صوت محام مرّ بجانبها وهو يتحدث هاتفياً مع موكله: «مشي الحال. تحددت قيمة الكفالة 150 مليون ليرة، خلينا ندفعها ونخلص». تختلط الأصوات ببعضها، فيعلو صوت أحد القضاة من إحدى غرف المحاكمة وهو يعلن تأجيل جلسة المحاكمة أسبوعين إفساحاً في المجال أمام المتخاصمين للتوصل إلى «حل حبيّ».
حركة المحامين
يتأبّط المحامون ملفاتهم، ويتنقلون بين غرف المحاكمات في الطابق الأول من قصر عدل بعبدا. يقفون أمام الغرف، ينتظرون قليلاً، ثم يسألون: «إجا القاضي؟». وإذا كان الجواب: «لا»، يكون السؤال التالي: «تحدد وقت الجلسة الجاي؟»، ليرفع بعدها المحامي هاتفه ويتصل بموكله لإبلاغه بأن الجلسة تأجلت إلى تاريخ لاحق.
في الممر الموصل إلى غرفة «حوادث السير»، تطبق العتمة على المكان. ولولا الهواتف الخليوية التي تلمع على المقاعد الخشبية ما أمكن الانتباه إلى وجود أحد في المكان.
يجلس عدد من المحامين على مقاعد خشبية متقابلة «يفلفشون» ملفاتهم على أضواء هواتفهم، ويتبادلون الحديث على أمل بحلحلة قريبة للوضع القضائي. يتشارك المقعد معهم رجل ثمانيني يضع كوفية على رأسه، يحمل أوراقاً بيده يفلفشها بين الحين والآخر، في محاولة لفهم ما تتضمنه من معطيات. لحظات ويصل محاميه. يقف مرحّباً ويعطيه الأوراق التي بيده، ويقول له: «إن شاء الله خير».
في الجهة المقابلة للممر، يتبادل محام ومحامية حديثاً عن الوضع: «الأمور مش عم تكمل. إذا إجا القاضي ما في سوق للموقوفين. وإذا ساقوا الموقوفين القاضي ما بيحضر. والموكلين مش عم يدفعوا حتى يلاقوا حلحلة شوي. والوضع واقف».
المساعدون القضائيون
ربما هي المرحلة الأصعب التي يعيشها المساعدون القضائيون في لبنان في هذه الفترة. لطالما عانى هؤلاء من نقص في الحقوق أو الحوافز وربما التعويضات، ولعل ما يميّز الوضع الحالي أنه «زاد الطين بلة». إذ إن أقل مقومات العمل الإداري غير متوافرة. فالقرطاسية من أقلام وأوراق غير متوافرة، وإذا توافرت فهي غير كافية لكل الأقلام ولا تتناسب مع حجم الحاجات الضرورية لإتمام الملفات القضائية وحفظها.
في غرف صغيرة مكدّسة بالملفات الصفراء، من الأعلى حتى الأسفل، تكاد بعض الملفات فيها تتهاوى من أعلى الخزانات الحديدية لكثرتها. ينكبّ المساعدون القضائيون على إنجاز ما استطاعوا إليه سبيلاً، على ضوء الهواتف، فيما يستعين أحدهم ببطارية يدوية لتدوين الأسماء والملاحظات.
يضاف إلى ذلك مشكلة غياب الطوابع والمحابر، وهي المستلزمات التي تعتبر أكثر من ضرورية لتسهيل عمل المرفق القضائي وإنجاز الملفات بصورتها النهائية.
تكديس الملفات
غياب المكننة عن المرافق القضائية من أهم المشاكل التي تعاني منها قصور العدل في لبنان. والأرشيف المركزي في قصر العدل في بعبدا، لا يختلف عن غيره، فالوصول إليه يحتاج إلى معاملة نظراً لكثرة الملفات الورقية، وصعوبة استرجاعها. فعملية البحث عن ملف قد تتطلب ساعات خاصة مع انقطاع الكهرباء. ويقول أحد المطلعين على واقع الأرشيف: «عندما كانت الكهرباء موجودة، كان شخص واحد فقط ينزل إلى الأرشيف لاسترجاع عدد من الملفات. مع غياب الكهرباء، أصبحت النزلة صعبة وتكاد تكون متعذّرة إلى حد كبير، فضوء الهاتف لا يساعد في عملية الاسترجاع لأن العتمة شديدة والأرشيف تحت الأرض».
لا مياه للشرب في النظارة
تنتشر النفايات في قصر عدل بعبدا في كل مكان، وتفيض سلال المهملات بالأوساخ من كل جانب. المشهد الأكثر قذارة على الدرج المؤدي إلى النظارة، حيث يجتمع الأهالي في انتظار دورهم لمواجهة الموقوفين. يقول أحد الأهالي: «واقفين حد الزبالة هون حتى نضلّ قريبين وناخد دور لنفوت نواجه بالنظارة».