كتب جوني منير في “الجمهورية”:
من المعروف تاريخياً انّ من النادر أن تؤثر الانتخابات النصفية على السياسة الاميركية الخارجية، لكن الانتخابات النصفية الاخيرة كان يمكن ان تشكّل استثناء في بعض النواحي، وخصوصاً على مستوى الحرب الدائرة في اوكرانيا. فلو كان حصل فوز كبير لـ»الجمهوريين» كما كان يُتوقع، كان يمكن حصول هذا التغيير، بحيث يصبح الاستمرار في سياسة الدعم الاميركي المفتوح لأوكرانيا أكثر صعوبة. فالمواقف الصادرة عن اقطاب الحزب الجمهوري قبيل الانتخابات، كانت تلوّح بخفض واضح للدعم المالي لأوكرانيا. والمشكلة هنا انّ القرار المالي يتحكّم به الكونغرس لا الإدارة. لكن نتائج الانتخابات النصفية اكّدت انّ استمرارية السياسة الاميركية تجاه اوكرانيا هي التي ربحت، من خلال عدم تخفيف المساعدات المالية الممنوحة لها.
وهذا الواقع سينعكس بطريقة غير مباشرة على الشرق الاوسط، ذلك انّ قارة اوروبا الخائفة والممزقة بالشكوك الذاتية وسط مخاوف من الركود الاقتصادي، تسعى للحفاظ على ازدهارها وتأثيرها، من خلال البحث عن الفرص لالتقاطها، وهي تجد انّ إحدى هذه الفرص تلوح من الخليج. فالمنطقة التي تشكّل الخزان النفطي للعالم، تمرّ بدورها بمشاكل حساسة، بعضها بسبب التوترات التي استُجدت بسبب الحرب الاوكرانية، وبعضها الآخر بسبب التعقيدات التي طالت علاقتها بالإدارة الاميركية صاحبة النفوذ الدولي الأقوى في الخليج. ولأنّ الجميع يدرك انّ الصراع السعودي هو مع إدارة بايدن الديموقراطية لا مع الولايات المتحدة الاميركية كدولة، فإنّ الاستدارة باتجاه الصين وروسيا إنما كانت من باب المناكفة اكثر منه من باب القرار المُتخذ. فلا الصين قادرة على بناء مظلّة حماية دولية لدول الخليج، ولا روسيا قادرة على تأمين الحماية لها، لذلك وجدت اوروبا حليفة الاميركيين في التأزم الحاصل، فرصة لها ولدول الخليج في الوقت نفسه. فدول الخليج لا تزال تبحث عن مكان قوي وثابت لها على الخارطة العالمية، ليس فقط كأكبر مصدّر للنفط، بل خصوصاً كقوة اقتصادية ثابتة ودائمة، وعلى مختلف المستويات.
وفي المقابل، فإنّ اوروبا التي كانت تركّز اهتماماتها على الولايات المتحدة الاميركية والصين، وجدت في سعي دول الخليج لإثبات نفسها دولياً، فرصة جدّية لإنتاج علاقة لا تثير حساسية واشنطن بدرجة كبيرة، ولا تشكّل تحدّياً للصين او روسيا.
اما دول الخليج، وعلى رأسها السعودية، والتي تبدي تجاوباً مع الاهتمام الاوروبي من خلال فرنسا والمانيا، تشترط ألّا يكون هذا الاهتمام محصوراً فقط بالتسليم السريع لمادة الغاز التي تحتاجها اوروبا بشدة، بل باتصالات دائمة ومستقرة وشراكة طويلة الأمد ترتكز على تعاون «كامل الأوصاف».
والسعودية الغارقة في إنجاز مشروع «نيوم» الضخم وسعيها الدؤوب لإنجاحه، تريد ان تتحول من عملاق نفطي إلى عملاق «هيدروجيني». فالمملكة تسعى لأن تصبح اكبر مصدّر للهيدروجين في العالم، وذلك في اطار البحث عن الطاقة النظيفة. وهي وضعت خططاً طموحة لتحقيق ذلك، وتهدف إلى تحويل 50% من مصادر الطاقة إلى متجدّدة والحدّ من الانبعاثات. وتدعم هذا التوجّه مقومات عدة متوفرة على اراضيها.
ووفق الأفكار المتداولة بين اوروبا والمملكة العربية السعودية، تنفيذ خط انابيب لنقل الهيدروجين من السعودية إلى اوروبا يمر عبر البحر الابيض المتوسط.
الدراسات الاولية أظهرت امكانية بناء هذا الممر «الانبوبي» من الناحية الفنية، لكن المشكلة تكمن في الاوضاع السياسية المعقّدة والصعبة والمتشابكة، فعليه ان يمرّ عبر مصر واسرائيل ولبنان فسوريا وصولاً إلى تركيا فأوروبا. وهذا «الموزاييك» البحري بحاجة لإعادة ترتيب وصقل لتأمين هذا الربط «الهيدروجيني» البحري بشكل آمن وطويل الامد. انّها الثروة التي من المستحيل ان تجاور الثورة، فلا بدّ من إخماد الحرائق، ولكن وفق خارطة سياسية ملائمة.
وثمة نظرية اقتصادية علمية معروفة وتقوم على أساس انّ الاستثمار والمال يفتحان الطريق ويرسمان مساره. وهذه القاعدة لن تشذ هنا ايضاً. واوروبا واثقة من عدم اعتراض واشنطن على مشاريعها مع السعودية. فهي تشكّل بديلاً أميناً عن سعي الصين وروسيا للتسلّل إلى قلب دول الخليج العربي. فالمشكلة التي تخشاها واشنطن ان يتطور التعاون الاقتصادي بين دول الخليج من جهة والصين وروسيا من جهة اخرى، إلى تعاون عسكري يهدّد مصالحها الأمنية الحيوية، وبالتالي يضعف نفوذها. ومن هذه الزاوية يُفهم التحذير الاميركي العلني لدول الخليج من الاندفاع قدماً إلى الامام في مشاريع التعاون الأمني مع الصين. ولأنّ قطع روابط التواصل الحيوي بين اوروبا صاحبة القدرات الاقتصادية الكبيرة، وبين روسيا الساعية في ظلّ رئاسة فلاديمير بوتين، لاستعادة مجدها الغابر والسيطرة على اسواق اوروبا وإخضاعها لنفوذه، هو حاجة غربية ملحّة أيقظتها حرب اوكرانيا، فكان لا بدّ من تأمين البديل والسعي لربط اوروبا بالخليج العربي عبر سواحل الشرق الاوسط، حيث النفوذ الاميركي قائم وبقوة. ألم يعلن الرئيس الاميركي جو بايدن انّ بلاده لن تترك مساحات فارغة في الشرق الاوسط ستعمل الصين وروسيا على ملئها؟
لهذا كان لا بدّ من إعادة ترتيب خارطة النفوذ السياسي في الشرق الاوسط بما يتلاءم مع هذا التصور الجاري بناؤه. ومنذ فترة تسعى تركيا لفرض نفسها كقوة أساسية في المنطقة. وهي سعت بحراً من خلال التأثير في الاكتشافات «الغازية» والإمساك بخط تزويد اوروبا البحري.
وسعى إردوغان خلال المرحلة الماضية لاستعادة علاقة دافئة واستراتيجية مع الولايات المتحدة الاميركية، وفي الوقت نفسه تراجع دعمه للاخوان المسلمين مقابل إعادة إحياء علاقته مع مصر، وقبل ذلك بعودة التواصل مع اسرائيل مقابل تراجع الدعم التركي لحركة «حماس»، واليوم يتحضّر إردوغان لعملية عسكرية واسعة شمال سوريا إثر عملية التفجير، والتي لا تزال تفاصيلها غير واضححة تماماً في اسطنبول.
ويبدو انّ الهجوم العسكري التركي حاز هذه المرة على «تفهم» واشنطن بخلاف المرة السابقة، وهو ما كان ادّى إلى تجميد أنقرة لخطوتها العسكرية. لكن ثمة جديداً الآن مبني على تفاهمات غير واضحة بعد، أدّت إلى زوال الاعتراض الاميركي على عملية عسكرية محدودة ومحدّدة.
اردوغان سيستفيد انتخابياً في ايار المقبل من هذه العملية العسكرية، وواشنطن تعلم ذلك، ما يعني انّها باتت تؤيّد بقاءه في السلطة بعد سنوات من التوتر، لكن الأهم انّ هذا التفاهم لا بدّ ان يكون قد استند على «بروتوكول» تعاون جديد، خصوصاً على الساحة السورية، حيث عملت ايران على ملء الفراغ الروسي الجزئي بسبب الحرب في اوكرانيا.
وفي اسرائيل، حكومة يمينية متطرفة تضع نصب أعينها تصفية مشروع الدولتين لصالح الدولة اليهودية الصافية.
ولفتت في هذا الاطار «تحذيرات» الأجهزة الامنية الاسرائيلية حول قرب انهيار السلطة الفلسطينية، وهو ما يعني انّ الضفة الغربية امام اختبار قاسٍ.
وفي الوقت نفسه تشكّل الاضطرابات المستمرة في ايران عامل إلهاء للنظام الحاكم الذي كان يعمل طوال السنوات الماضية على تصدير «ثورته» الى دول المنطقة. وهذا المشروع كان قد حقق نجاحات لافتة في اليمن والعراق وسوريا ولبنان، قبل ان تبدأ الامور بالتبدّل، خصوصاً في العراق، والى حدّ ما في سوريا، وبدرجة اقل في لبنان. وهنا ايضاً لا بدّ من رسم علامات الاستفهام حيال استفاقة «داعش» في هذه المرحلة بالذات، حيث استهدف هذا التنظيم الارهابي مصر وسوريا والعراق في ثلاث هجمات متزامنة.
المهم انّ لبنان معني مباشرة بهذا الشرق الاوسط الجديد، ولذلك تبدو فرنسا نيابة عن اوروبا مهتمة بهذه الساحة. ولا جدال بأنّ القرار اولاً واخيراً بيد الاميركيين، لكن لباريس هامشاً لا بأس به، وهي تتحرك تحت مظلة التفاهم مع واشنطن. وصحيح انّ الملفات المفتوحة عديدة ودسمة وشائكة، لكن الاكيد هو انّ لبنان احد هذه الملفات.
ووفق اوساط مطلعة، فإنّ المبادرة الفرنسية باتجاه السعودية، والتي ستسبق القمة الاميركية – الفرنسية مطلع الشهر المقبل، يحرص الايليزيه على ابقائها طي الكتمان الشديد لعدم إحراقها وإفشالها. وبالتالي، فإنّ باريس لن تفصح عن الافكار الجاري تحضيرها الّا بعد ان تضمن بذور نجاحها.
وأغلب الظن، انّ باريس تنتظر تأكيدات سعودية بالموافقة مسبقاً على ما جرى طرحه حول لبنان، قبل انتقال ماكرون إلى واشنطن للقاء نظيره الاميركي.
ووصفت هذه الاوساط ما يحصل بأنّه عمل بطيء ودقيق، ولكنه سينجح في نهاية الامر.
وختمت هذه الاوساط كلامها بالقول، بأنّ الدور السعودي لاستعادة لبنان استقراره واستنتهاض اقتصاده أساسي ومهم جداً، ولا بدّ من أخذ ذلك في الاعتبار.