IMLebanon

قبيل العيد الـ79 للإستقلال… مَن يتذكّر راسم العلم اللبناني؟

كتب أحمد زين الدين في “اللواء”:

واحد وعشرون يوما من الشغور الرئاسي في لبنان، وعداد الأيام على هذا الشغور يستمر في التصاعد، فيما يحل غدا العيد الـ79 للاستقلال من دون الاحتفالات المعتادة، فيما المنظومة السياسية عاجزة عن تطوير آليات النظام ووسائله الديموقراطية، الى درجت يمكن القول انها فرّطت بالأمانة التي سلّمها إياها رجالات كبار عام 1943. فمن يذكر على سبيل المثال لا الحصر راسم العلم اللبناني الذي يرفع في كل مكان في البلد، على ساريات القصر الجمهوري ومجلس النواب والسراي الحكومي والوزارات والسفارات والقنصليات وجميع الممثليات اللبنانية في الخارج.

من يتذكّر راسم العلم اللبناني ابن طرابلس الفيحاء الرئيس سعدي المنلا، في وقت حاول أحد الأحزاب اللبنانية الذي لم يدخل عضو منه الى البرلمان قبل العام 1960، نسب هذا الشرف إليه في أدبياته السياسية في زمن مضى.

نعود الى شهر تشرين الثاني عام 1943، حينما دعا أول رئيس استقلالي لمجلس النواب صبري حمادة لعقد جلسة مستعجلة بعد اعتقال سلطات الانتداب الفرنسي رئيس الجمهورية بشارة الخوري ورئيس الحكومة رياض الصلح ووزراء والنائب عبد الحميد كرامي، حمل أوراق الدعوة إليها حجّاب المجلس، وبعض موظفيه لأن قيادة الدرك في حينه امتثلت لأوامر المستعمر، وراحوا يطوفون على منازل النواب ليبلغوهم إياها، وكانت الجماهير قد احتشدت في ساحة البرلمان والشوارع المحيطة به، وهي تهتف هتافات عالية بحياة المعتقلين في قلعة راشيا (بدنا بشارة – بدنا رياض).

وكان رئيس المجلس والنواب القلائل الذين في داخل المجلس، يطلّون من نوافذ مكتب الرئيس على الشعب الهائج، فيحييهم ويهتف لهم، ثم يقبل على النوافذ يريد أن يتسلقها، لينفذ إلى داخل المجلس، فيطلب إليهم النواب أن لا يفعل ليفسح لهم مجال العمل، فيرتد الشعب ويذعن لما يريد نوابه.

في تلك الساعة أقبل الجنود السنغاليون في الجيش الفرنسي، وشرعوا يطوقون المجلس ويحولون دون دخول أحد إليه. ورابط عدد كبير منهم، بادئ ذي بدء، أمام الباب الكبير ووضعوا جندياً تحت كل نافذة ليمنعوا كل اتصال بين المتظاهرين والنواب. وأقبل نائب طرابلس سعدي المنلا يريد الدخول من الباب الكبير، فمنعه السنغاليون، فأشار عليه الجمهور أن يدخل من النافذة إلى مكتب الرئيس مباشرة. ولما رأى النواب، من داخل المجلس، زميلهم قرب النافذة يهمُّ بتسلّقها، أشاروا على الشعب أن يحمله على الأكتاف، فاندفع الجمهور وحمل النائب على المناكب، ورماه رمياً على حديد النافذة فتعلق النائب بالحديد بكلتا يديه، وأصبح نصفه داخل المكتب ونصفه خارجه. وفي تلك اللحظة، هجم الجندي المكلف بحراسة النافذة على النائب، يريد أن يحول بينه وبين الدخول، وصوّب إليه رأس حربة بندقيته يريد به شرّا وهنا شق الجموع الشاب الرياضي حسين سجعان ووثب على الجندي، وأخذ عنقه بكلتا يديه وأخذ يدقه فيما النواب المتواجدون داخل المجلس كانوا يجذبون إليهم زميلهم. وأصبح لتلك النافذة من دون نوافذ المجلس اسم ما زالت تعرف به حتى اليوم وهو «نافذة سعدي بك».

كانت هذه الحادثة كافية لتنبيه الفرنسيين كي يضاعفوا الحراسة على مجلس النواب، فطوّقه الجنود السنغاليون تطويقاً محكماً، ومنعوا أيا كان من الدخول إليه، فكان النواب الذين تلقّوا دعوة رئيسهم، يصلون إلى مجلس النواب فيحول الجند بينهم وبين الدخول، فيرتدون ثم يذهبون إلى منزل رئيس الجمهورية المعتقل مع رئيس الحكومة والوزراء والنائب كرامي في قلعة راشيا في البقاع، ويذكر ان أحد الجنود أراد أن يمنع النائب رشيد بيضون من الدخول إلى المجلس، لكنه استطاع أن يدخل بالقوة بعد أن ضرب الجندي وبعد أن تجمهر النّاس حوله لمساعدته.

كان عدد النواب الذين دخلوا مبنى مجلس النواب قد أصبح سبعة نواب فقط هم: الرئيس صبري حمادة، صائب سلام، هنري فرعون، رشيد بيضون، مارون كنعان، محمد الفضل، وسعدي المنلا.

لما فَقدَ الرئيس صبري حمادة كل أمل بالاتصال بالخارج، دعا النواب الستة إلى الاجتماع في قاعة الجلسات الكبرى، حيث انصرفوا إلى وضع مذكرة شديدة اللهجة. ويقول الرئيس حمادة في هذا الصدد: «لم يكن من اليسير كسر الحصار الذي فرضه علينا الفرنسيون، والاتصال بسفارات الدول لاطّلاعها على تطورات الأمور وعلى مقررات مجلس النواب وصمودنا في وجه الفرنسيين. فجرى اتفاق بيننا وبين ألبير فرعون، عم هنري فرعون، يقضي بأن يرسل له رئيس المجلس نص المقررات، وبرقيات الاحتجاج إلى سفارات الدول داخل حذاء أحد مرافقيه، وكان هذا المرافق يدعى مرشد شمص».

ومما جاء في هذه المذكرة: إن النواب الموقّعين، الذين تمكّنوا من الوصول إلى المجلس يعتبرون انهم ينطقون بإسم المجلس كافة الذي انتخب فخامة الرئيس بشارة الخوري رئيساً دستورياً شرعياً للجمهورية اللبنانية بالإجماع، والذي منح حكومة دولة رياض الصلح ثقته بالإجماع، والذي عدّل الدستور اللبناني بما يتفق مع كرامة الأمة بالإجماع، ان هؤلاء النواب المجتمعين برئاسة فخامة صبري حمادة رئيس المجلس، قد وقفوا على الاعتداء الغاشم والتدابير المستنكرة الذي أقدم عليها جنود فرنسيون مسلحون في ليل 10-11 تشرين الثاني على أشخاص فخامة الشيخ بشارة الخوري رئيس الجمهورية، ودولة رياض بك الصلح رئيس الوزراء وأصحاب المعالي الوزراء، واقتحام هؤلاء الجنود المسلحين منازل رؤساء الأمة ووزرائها الشرعيين، وترويع نسائهم وأطفالهم، مما تستنكره مدنية القرن العشرين، وهم إذ يحتجون بشدّة وعنف على هذا التدخل الفاضح، من قبل القوات الفرنسية الغاشمة، ومن ورائها من الآمرين، ضد الدستور، وممثل الدستور، ويعتبرون ان الدستور قائم، وان البرلمان يمثله تمثيلاً شرعياً رغم اعتداء المعتدين». وقد وقّع المذكرة الرئيس صبري حمادة، سعدي المنلا، هنري فرعون، صائب سلام، رشيد بيضون، محمد الفضل، ومارون كنعان.

ويقول الرئيس حمادة هنا: «وما ان فرغنا من وضع المقررات التاريخية المعروفة حتى صعدنا إلى سطح مجلس النواب المطل على مكتب ألبير فرعون الذي فهم الإشارة وأسرع يتسلم الأوراق من مرافقي ويسلّمها بدوره إلى من أرسلت إليهم. ثم شرعنا في استبدال العلم الذي كانت الأرزة تتوسط فيه الألوان الفرنسية بعلم لبناني خالص».

ويقول الرئيس صائب سلام في هذا الخصوص في لقاء لي معه: بعد ان كنا في جلسة سابقة نزعنا من الدستور كل المواد الاستعمارية والانتدابية، بقي العلم اللبناني حيث كان المسلمون يريدون العلم العربي المؤلف من الألوان: الأبيض والأحمر والأخضر والأسود، وكان المسيحيون يريدون العلم الفرنسي، لكن بدلاً من أن يكون في الطول يكون في العرض وتتوسطه الأرزة.

ووسط هذا الازدحام، أردنا أن نزيل هذا الخلاف، فطلعت وهنري بفكرة العلم، أي الأبيض علامة السلام، والأحمر علامة الدم والشهادة في سبيل الحرية والاستقلال والأرزة الخضراء في وسطه.

وفعلاً وضعت صيغة الاقتراح بتعديل المادة الخامسة من الدستور، وجيء بقلمين واحد رصاص وآخر أحمر، وأخذ سعدي المنلا مهمة رسم العلم الجديد، ولم يجد النواب قلماً أخضر، فرسمت الأرزة بقلم الرصاص العادي، ثم وقّعوا بامضاءاتهم على الرسوم وعلى الاقتراح، ووقف الرئيس، والنواب وأقسم الجميع على أن تكون هذه الألوان علماً للبنان المستقبل، وأن يطلعوا بها على الأمة حالما تسمح الظروف ليصير تقريرها في أول جلسة يعقدها البرلمان، وتفجرت العواطف في الصدور وراح النواب يهنئون بعضهم البعض.

استمرت هذه الجلسة التاريخية حتى الساعة الثانية بعد الظهر، فاقتحم السنغاليون البرلمان، بعد أن ضاقت السلطة الفرنسية ذرعاً بوجود النواب في داخله وأدركت ان بقاءهم فيه رمز لما يجب أن يكون في بلد مستقل، يحمي حرمة الدستور. فقررت إخلاء البرلمان بعد ان حاصرته ست ساعات، وسمع النواب وقع خطى السنغاليين ترنّ في أروقة المجلس الخالية، فأخذ كلٌ مكانه واستوى الرئيس على كرسيه. وتذكّر النواب في تلك اللحظة كلمة ميرابو الشهيرة لرسول الملك: «إذهب وقلْ لسيدك اننا هنا بقوة الشعب ولن نخرج إلا على رؤوس الحراب»، ودخل القاعة نحو عشرين جندياً، يتقدمهم ضابط شاهراً مسدسه، فلم يتحرك الرئيس ولا تحرك أحد من الأعضاء. فلما توسطوا القاعة صاح الرئيس بالضابط قائلاً: من أذن لك بالدخول على رئيس مجلس نواب لبنان وممثلي الشعب تحت قبة البرلمان؟

قال الضابط الفرنسي: يا حضرة الرئيس، لدّي أوامر تقضي بإخلاء البرلمان، فأرجو منكم أن تساعدوني على تنفيذها. قال الرئيس: إننا لا نذعن لأمر أحد، فنحن في بلد مستقل، ولا شأن لكم معنا فعُدْ من حيث أتيت.

فكرّر الضابط الفرنسي قوله: يا حضرة الرئيس إنني جندي وعليّ أن أطيع الأوامر. وقد أبلغتكم إياها.

فأجاب الرئيس: إننا هنا ولن نخرج من هذه القاعة بمحض إرادتنا فأفعل ما تريد.

قال الضابط: فستخرجون إذن بالقوة. وأشار إلى الجنود، فأكره رئيس المجلس والنواب والموظفون على الخروج.

وما كادت الجماهير المحتشدة حول البرلمان، منذ الصباح ترى الرئيس والنواب، حتى سارت وراءهم في تظاهرة صاخبة وهتافات متعالية بحياة النواب، واخترق الموكب شوارع بيروت في طريقه إلى بيت الرئيس بشارة الخوري، والهتافات تشق عنان السماء، وكانت النسوة يطللن من الشرفات وينثرن على رئيس المجلس والنواب الستة الزهور ويصفقن لهم طويلاً.

الجدير بالذكر، أن الرئيس سعدي المنلا، كان قد ترأس الحكومة في العهد الاستقلالي الأوّل من 22 أيار 1946 حتى 14 كانون الأول 1946، وفي عهده تمّ إقرار أوّل قانون للعمل في لبنان، بعد ان كان قد تسلّم وزارة العدل في حكومة سامي الصلح من 12 آب 1945 حتى 11 نيسان 1946 ووزارة الداخلية من 11 نيسان 1946 حتى 18 أيار 1946.