كتب شارل جبور في “الجمهورية”:
عندما تصل البرلمانات في كل ديموقراطيات العالم إلى الحائط المسدود بعجزها عن إنتاج السلطة ويستمر معها الشغور والفراغ والتعطيل يتم اللجوء إلى حلّ البرلمان وإجراء انتخابات نيابية جديدة، لأنّ الهدف الأوحد دائماً هو تسيير شؤون الدولة والناس بحدها الأقصى وليس تعطيلها وتسييرها بحدها الأدنى وتصريف الأعمال.
في كل مرة يعجز فيها مجلس النواب عن انتخاب رئيس للجمهورية بفِعل ميزان القوى داخله يجب الاحتكام إلى الشعب مجددا، فمن ينتخب الرئيس هو البرلمان، فإمّا ان يكون قادرا على تحقيق هذه المهمة، وإما عليه الاستقالة والدعوة لانتخابات نيابية جديدة، لأنه لا يجوز ان يتحول الشغور إلى قاعدة وان تتخلى الكتل النيابية عن إحدى أبرز مسؤولياتها.
فالانتخابات الرئاسية هي المدخل لإنتاج كل السلطة التنفيذية بدءاً برئيس الجمهورية مرورا برئيس الحكومة وصولا إلى الحكومة مجتمعة، وفي حال لم ينجح البرلمان في انتخاب رئيس جديد يجب الذهاب إلى انتخابات نيابية جديدة، لأنه لا يجوز إبقاء البلاد بلا سلطة تنفيذية، خصوصاً ان مجلس النواب يفقد إحدى وظائفه الأساسية بإنتاج سلطة ومحاسبتها ومُساءلتها، فيما الحياة الدستورية كلٌ متكامل بين مجلسي نواب ووزراء ورئيس الجمهورية، وعندما تتحوّل السلطة التنفيذية إلى تصريف أعمال بغياب رئيس الجمهورية تتعطّل الدورة الدستورية الطبيعية.
ولم يضع الدستور المهل الدستورية ليتم تجاوزها والتعامل معها بخفة، إنما وضعها من أجل التقيُّد والالتزام بها، وعندما لا يتم الالتزام بهذه المهل فإما يفترض الطعن بشرعية مجلس النواب، وإما إسقاط شرعية الكتل النيابية التي تعمّدت تعطيل جلسات الانتخابات الرئاسية، وإما الذهاب إلى انتخابات نيابية جديدة، لأنّ المهلة الدستورية يجب ان تكون مقدسة، والدول التي تحترم نفسها وشعبها تتقيّد بالمهل، وفي حال أفضَت موازين القوى البرلمانية إلى التعطيل بدلاً من التفعيل يجب العودة إلى صناديق الاقتراع.
ولا يجوز التسليم بالشغور والفراغ في الأنظمة الديموقراطية، واي تسليم من هذا القبيل يحوِّل الديموقراطية إلى شكلية، لأن هناك من لا يلتزم بنتيجة الانتخابات ويمارس التعطيل عن سابق تصور وتصميم سعياً إلى انتزاع مآربه عن طريق تخييره الفريق الآخر بين الخضوع لشروطه او استمرار الشغور، وهذه الممارسة منافية لكل فلسفة الانتخابات وتداول السلطة وإنتاجها.
وعندما يستحيل التغيير بواسطة صناديق الاقتراع مع رفض محور سياسي التسليم بنتيجة الانتخابات ولجوئه إلى التعطيل، يجب التفكير جدياً بجدوى الانتخابات التي تُصبح مسيئة ومضرة كونها تعطي انطباعا بأنّ البلد ديموقراطي، فيما الممارسة لا تَمتّ إلى الديموقراطية بصلة، لا بل هناك من يستخدمها كمظلة لمشروعه غير الشرعي، ويعتبر نفسه في موقع الـ»رابح-رابح»، لأنه في حال فاز في الانتخابات هَلّل لنتائجها ووفّر الغطاء لمشروعه، وفي حال خسر الانتخابات يرفض التسليم بهزيمته فيعطِّل نتائجها إلى ما شاء الله بانتظار ان يسلِّم الفريق الرابح بشروط الفريق الخاسر.
فلا قيمة لانتخابات نيابية إذا كانت غير قابلة للترجمة العملية وإذا كانت بعض الكتل النيابية لا تحترم المهل الدستورية ولا تحترم إلزامية ممارسة واجبها الدستوري، ولو كان في ذِهن المشرِّع ان هناك مَن سيعمد إلى التعطيل لكان بالتأكيد لحظَ عقوبة أقلها إفقاد النواب المعطلين نيابتهم، ولكن الدساتير توضع بخلفية إيجابية من زاوية ان همّ النائب خدمة بلده وشعبه وان دور المؤسسات الدستورية إدارة شؤون الدولة والناس، ومن هذا المنطلق لم تلحظ عقوبة ولم تقيِّد رئيسَي الجمهورية والحكومة بمهلتي التكليف والتأليف، لأن المشرِّع افترض انّ رأسي السلطة التنفيذية لن يوفّرا جهدا لتأليف الحكومة بأسرع وقت ممكن.
وما قيمة نظام ديموقراطي في حال كانت آلياته معطلة، ولا بل خطورة هذا النوع من الأنظمة انها توهِم الرأي العام الخارجي والمحلي بأنّ النظام المعمول به ديموقراطي، وهذا ما دفع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مثلاً إلى القول إبّان زيارته للبنان بعد انفجار الرابع من آب ان «حزب الله» مُنتخب من الشعب اللبناني، ما يعني انه يتلطّى بالشرعية ويتعامل معها وفق مصلحته وعلى القطعة، فإذا جاءت الانتخابات لمصلحته يحتكم إلى نتيجتها، وفي حال العكس يعطِّل مفاعيلها.
وهذا الاستهتار المتمادي بتجاوز المهل الدستورية ورفض انتخاب رئيس للجمهورية والتعامل مع الانتخابات كمحطة لزوم ما يلزم وتخيير الخصوم بين السيئ والأسوأ يجب ان يدفع القوى المعارضة إلى التفكير جدياً بجدوى الاستمرار في المسار نفسه، وهذا لا يعني الاكتفاء بالاستقالة من مجلس النواب وتقديم السلطة للفريق الحاكم والمتحكِّم على طبق من فضة، لأن خطوة من هذا النوع خطيئة مميتة، إنما اللجوء إلى العصيان والتظاهر لإسقاط نظام 13 تشرين 1990 بالضربة القاضية من أجل فرض الذهاب إلى تسوية سياسية جدية.
ولم يعد مسموحا ولا مقبولا استنساخ الممارسة نفسها مع كل انتخابات رئاسية وفي ظل منظومة ترفض التغيير والإصلاح وتُبقي لبنان في مستنقع الفشل والعزلة والانهيار، فإلى متى الانتظار وعلى ماذا التعويل، خصوصاً ان المكتوب يُقرأ من عنوانه، والآمال بالتحسين والتغيير تكاد تكون معدومة. ولذلك، حان الوقت لأن تفكِّر المعارضة جدياً وبشكل سريع بخيار من اثنين:
الخيار الأول وضع مهلة زمنية لانتخاب رئيس جديد للجمهورية، وفي حال لم يتم الالتزام بهذه المهلة ان تستقيل المعارضة من مجلس النواب وتفرض تقصير ولاية المجلس الحالي والذهاب إلى انتخابات نيابية مبكرة، خصوصاً انّ مزاج الرأي العام وعلى رغم الفترة القصيرة الفاصلة عن الانتخابات تَبدّل بعدما لمس الأداء الاستعراضي لمن أطلقوا على أنفسهم صفة التغيير، وقد حرم بتصويته لهذه الفئة الأحزاب والشخصيات التي تمتلك تشخيصاً واضحاً لطبيعة الأزمة وتعمل وفق أهداف وطنية واضحة، ومعلوم ان الاقتراع لِما سمّي بلوائح التغيير يندرج ضمن التصويت للوائح المعارضة، اي ان المعارضة الفعلية حُرمت من هذا الاقتراع الكثيف الذي لو صَبّ لمصلحتها لكان تغيّر المشهد البرلماني والسياسي، وفي مطلق الحالات فإنّ أي تصويت اليوم سيختلف جذرياً عن تصويت الأمس، والمبرِّر للانتخابات المبكرة لا يقتصر على تبدُّل المزاج العام الذي يريد الاقتراع لمن يحمل مشروعاً سيادياً وإصلاحياً للبلد لا لشخصه، إنما يتجاوز ذلك إلى كون الانتخابات لم تُنتج سلطة وأدت إلى شغور وفراغ، والخروج من حالة المراوحة في التعطيل يكون بالعودة إلى صناديق الاقتراع.
الخيار الثاني الإطاحة بالنظام السياسي القائم بعدما سُدّت كل أبواب التغيير وسقطت كل رهانات إصلاح الوضع القائم، وتحول عامل الوقت إلى عامل قاتل يجب مواجهته من خلال قلب الطاولة رأساً على عقب، اي نقل اللعب السياسي من حول الطاولة إلى قلب الطاولة، خصوصا أن اي رئيس للجمهورية سيتولى دور إدارة الأزمة تحت سقف سلاح «حزب الله» ودوره، ما يعني «تيتي-تيتي». وبالتالي، إما العودة إلى سقف اتفاق الطائف، وإما إطاحة السقف القائم الذي يخدم مشروع الحزب ولا يخدم مشروع اللبنانيين.