كتب شارل جبور في “الجمهورية”:
هناك من يعتبر انّ «حزب الله» متمسِّك بانتخاب النائب السابق سليمان فرنجية رئيساً للجمهورية، ولكن هناك من يعتبر بالمقابل انّ الحزب لن يقاتل تحقيقاً لهذا الهدف، كون مصلحته بانتخاب رئيس غير محسوب عليه. لماذا؟
يميّز «حزب الله» بين مواقفه المعلنة التي يكتفي فيها بتحديد مواصفات الرئيس المقبل الذي عليه ان «يقرّ ويعترف بدور المقاومة في حماية السيادة الوطنية»، ورفعه ثلاثية «جيش وشعب ومقاومة»، وان يكون دوره في «حماية ظهر المقاومة»، وبين المواقف المنقولة عنه في الصحف، وتحديداً على إثر اللقاء الذي جمع السيد حسن نصرالله مع النائب جبران باسيل، والتي تظهِّر موقفه الداعم لفرنجية.
ولكن عدم الالتزام المعلن بتبنّي ترشيح رئيس تيار «المردة» يعني انّ الحزب ظاهرياً لم يحسم موقفه بعد ويُبقي الخيارات الأخرى مفتوحة، أكان تجنّباً لتحميله مسؤولية استمرار الانهيار في حال وصول رئيس من صفوفه، بعدما تمّ تحميله مسؤولية ما أصاب البلد بسبب دعمه المفتوح للعهد السابق، أو حرصاً على العلاقة مع الرئيس ميشال عون والنائب جبران باسيل، وقد عبّر الأخير صراحة عن رفضه خيار فرنجية، وتقصّد ألاّ يُبقي موقفه مضمراً في رسالة إلى الحزب بأنّه ليس في وارد التراجع عنه.
ومن الواضح انّ الحزب يتقصّد الالتباس في مواقفه المعلنة بين كلامه حيناً عن مواصفات رئيس تحدٍ، وبين كلامه أحياناً عن رئيس توافقي، وكان لافتاً ما قاله الشيخ نعيم قاسم بأنّه «لا يمكن تحريك الوضع الاقتصادي والاجتماعي وخطة التعافي، لأنَّ الطريق الإلزامي لبداية الإصلاحات وبداية العمل لإنقاذ لبنان هو انتخاب الرئيس، وإذا كانت المقاومة نقطة خلافية أحيلوها إلى الحوار ولنأتِ برئيس لديه قدرة على العمل الإنقاذي باشتراك كل اللبنانيين حول الموضوع الاقتصادي، ويكون لديه القدرة على إدارة طاولة حوار تستطيع أن تجمع اللبنانيين ليتناقشوا في موضوع الاستراتيجية الدفاعية، ولنر إلى أي نتيجة سنصل».
ويؤكّد هذا الموقف إصرار «حزب الله» على إطلاق مزيد من الإشارات المتناقضة، والهدف من هذه الإشارات توجيه رسالة إلى أخصامه بأنّه منفتح على كل الخيارات، كما انّ استعجاله انتخاب الرئيس رسالة موجّهة إلى باسيل وفرنجية معاً بأنّ الوضع المالي لا يسمح بشغور طويل، وانّ معالجة الوضع لا يمكن ان تتمّ من دون انتخاب رئيس، بمعنى دعوتهما إلى الاتفاق على انسحاب أحدهما للآخر او على مرشح ثالث، لأنّ استمرار خلافهما سيجعل الحزب مضطراً إلى تجاوزهما.
وهناك وجهة نظر تقول انّ التسريب المتعمّد والمكثّف بأنّ السيد نصرالله منزعج من موقف النائب باسيل الرافض تبنّي ترشيح النائب السابق فرنجية الهدف منه إيصال رسالة للأخير بأنّه عمل أقصى ما يمكن فعله وليس في اليد حيلة، وانّه أصبح مضطراً الذهاب إلى خيار ثالث، يوازن من خلاله بين تجنُّب انفراط العلاقة مع باسيل ومن دون ان يتبنّى ترشيحه في الوقت نفسه، كون الدور هذه المرة كان لفرنجية، وبين انّ المرشّح الرئاسي الثالث يتمّ اختياره بالتفاهم والاتفاق مع رئيسي «التيار الوطني الحر» و»المردة».
وثمة من يقول أيضاً بأنّ ردة فعل باسيل على دعوة نصرالله لتبنّي فرنجية سببها اعتقاده انّ الحزب لا يمكن ان يفاضله بأحد، إن بسبب حيثيته التمثيلية الشعبية والنيابية، أو كونه الوحيد القادر على مواجهة «القوات اللبنانية»، أو بفعل الخسائر التي تكبدّها نتيجة تحالفه مع الحزب بدءًا من العقوبات الأميركية، وصولاً إلى انحسار شعبيته، وكان من الأولى على الحزب ان يحفظ الجميل ويردُّه، وليس ان يطلب منه تبنّي ترشيح فرنجية بحجة انّ ظروف انتخابه لباسيل غير متوافرة، فيما حظوظ العماد ميشال عون في العام 2014 لم تكن بدورها متوافرة، ولو لم يتمسّك السيد حسن بهذا الترشيح لما انتخب عون في العام 2016، وبالتالي المطلوب الصبر لا الحسم.
ويدلّ موقف الشيخ نعيم، انّ الصبر الطويل غير ممكن، وبالتالي بما انّ «حزب الله» لن يتبنّى ترشيح فرنجية من دون موافقة باسيل، وبما انّه في غير وارد تبنّي ترشيح باسيل، فإنّه سيبدأ رحلة البحث عن الخيار الثالث الذي يستطيع من خلاله مدّ الجسور باتجاهين: باتجاه المعارضة، وباتجاه الخارج، فيما قدّم كل من باسيل وفرنجية أفضل سيناريو للحزب، وهو الخروج من إحراج «وعد رئاسي صادق جديد»، ليس فقط لتعذُّر إيصال أحدهما بفعل ميزان القوى داخل البرلمان، إنما بسبب خشيته من انعكاسات هذا التوجُّه على ثلاثة مستويات أساسية:
المستوى الأول، القوى السياسية المعارضة التي لن تمنح العهد الجديد فترة سماح، وستتعامل معه وكأنّه تمديد لعهد الرئيس عون، وستكون في مواجهته وفي موقع المعارضة منذ اللحظة الأولى، ما يعني مواصلة تحميله مسؤولية الانهيار واستمراره، ولن يتمكّن من مواجهة الواقع الانهياري في ظل معارضة شرسة في مواجهته، فضلاً عن انّ تجربة النصف الثاني من ولاية الرئيس عون تدلّ انّ فريق 8 آذار عاجز عن إخراج لبنان من أزمته.
المستوى الثاني، الرأي العام الذي سينظر بدوره إلى رئيس من 8 آذار بأنّه تمديد لفقره وجوعه ومأساته، ولن يكون في وارد تصديق الوعود التي ستُقطع له من فريق حكم وتحكّم وجُرِّب، ما يعني انّ العهد الجديد سينطلق على وقع معارضة مزدوجة: معارضة سياسية، ومعارضة شعبية، والمعارضة الأخيرة يمكن ان تقود سريعاً إلى انتفاضة جديدة.
المستوى الثالث، المملكة العربية السعودية التي أبلغت واشنطن وباريس، بأنّ مساعدتها المالية للبنان مشروطة بانتخاب رئيس الجمهورية الذي يلتزم باتفاق الطائف ومواقف الجامعة العربية وقرارات الشرعية الدولية، ما يعني انّ انتخاب رئيس من 8 آذار سيحرم لبنان المساعدة الخليجية وتحديداً السعودية، ومعلوم انّه من الصعب على لبنان ان يخرج من أزمته من دون مؤازرة خليجية.
وانطلاقاً من هذه المستويات، فلا مصلحة لـ»حزب الله» بانتخاب رئيس من صفوفه، كونه يخشى من دفع الأوضاع نحو الارتطام الكبير الذي يقود إما إلى تقطيع أوصال لبنان أو إلى مؤتمر دولي، وفي الحالتين خسارته للورقة اللبنانية وتراجع وضعيته إلى داخل المربّع الشيعي، فيما من مصلحته ترييح الوضع وتنفيسه وليس دفعه إلى الانفجار، اي انّ مصلحته بانتخاب رئيس من خارج صفوفه، شرط ألّا يكون مستفزاً له ويدرك حدود العلاقة بين الرئاسة الأولى والحزب.
وتفيد معظم المؤشرات بأنّ مقاربة «حزب الله» لرئيس جمهورية من صفوفه أقرب إلى المناورة منها إلى الجدّية، والهدف منها حفظ ماء وجهه حيال حليفه باسيل وفرنجية من جهة، وتحسيناً لشروطه التفاوضية من أجل الإتيان بالرئيس الأقرب إلى توجّهاته من جهة أخرى، أي الرئيس الذي يستطيع بواسطته ترجمة ما تحدّث عنه الشيخ نعيم لناحية «تحريك الوضع الاقتصادي والاجتماعي وخطة التعافي».
ولكن أن يكون هدف «حزب الله» انتخاب رئيس من خارج صفوفه لا يعني انّ هذا الانتخاب سيحصل غداً، لأنّه ما زال بحاجة إلى مزيد من الوقت من أجل تجاوز قطوع الخلاف مع فرنجية وباسيل، وتعبيده الطريق أمام عبور آمن للمرشّح الثالث، كما من أجل ان يقطع نصف المسافة مع المعارضة التي لن تقبل سوى بالمرشّح المحصّن من الضغوط والقادر على إعادة الاعتبار لهيبة الدولة.
وما تقدّم يعني انّ ظروف انتخاب الرئيس العتيد لم تنضج بعد بسبب غياب أولاً جهوزية «حزب الله» للخروج من ترشيحي باسيل وفرنجية، واصطدامه ثانياً بتشدُّد المعارضة في المواصفات الرئاسية، وبالتالي على رغم إدراكه انّ الشغور الطويل او انتخاب رئيس من صفوفه يقود إلى انفجار الوضع، إلّا انّه ما زال بحاجة إلى الصدمة التي تمكِّنه من تجاوز عقبته الرئيسية داخل صفوفه.