كتب عيسى يحيى في “نداء الوطن”:
تغنّى البقاعيون على مدار السنين الماضية بالمونة الشتوية والكمّيات التي يحضّرونها على اختلاف أصنافها وأنواعها، حيث باتت أشبه بالكنز الثمين الذي تحتويه منازلهم ويواجهون بها ضيق الأوضاع المعيشية خلال الشتاء الذي تتزاحم فيه الأولويات والمصاريف.
إعداد المونة البيتية تحضيراً لفصل الشتاء حين تتقطّع أوصال القرى والبلدات عن بعضها البعض بسبب الصقيع والثلوج فيختفي معظم الخضار والفواكه، شكّل تراثاً ملازماً للبقاعيين وتقليداً سنوياً تحافظ عليه النسوة كأخواتهنّ في الجنوب والشمال ومختلف المناطق، لتختلف كل منطقة عن شقيقتها بالأصناف التي تُحضّرها. فكان لبعضها علامة فارقة وطعمٌ مميّز صنعته أيادٍ تجاهد في سبيل تأمين لقمة العيش وما تحتاجه أيام الشتاء بعد استفحال الغلاء وعدم القدرة على مجاراة الأسعار وزيادة المتطلّبات من تدفئة وأقساطٍ مدرسية ومصاريف.
على مدى أيام متواصلة وبحركة لا تهدأ، تبدأ النساء في البقاع بالتحضير للمونة الشتوية كأنّهنّ في سباقٍ مع الزمن قبل أن ينتهي موسم الأصناف، فالحكاية طويلة والتحضيرات والكمّيات تختلف بحسب عدد أفراد العائلة، ومع نضوج المواسم الزراعية، تكرُّ سبحة المونة فتعمل النسوة على أكثر من جبهة. البداية مع «الكشك» الذي تشتهر به المنطقة ويبدأ موسم تحضيره منذ أيار، وهو يحتاج إلى حليب وبرغل وجهد متواصل ليل نهار على مدى أسبوع ليكتمل نضوجه قبل حمله إلى المطحنة ثم تجفيفه تحت أشعة الشمس ليومين قبل توضيبه في جرار الفخار المخصّصة.
ومنه تنتقل النسوة إلى الكبيس على اختلاف أنواعه وصناعة ربّ البندورة وغيرها من أصناف الخضار والحشائش اليابسة التي تكون طبقاً رئيسياً خلال الشتاء، فضلاً عن أنواع المربيات من التين والمشمش وكل ما وقعت عليه أياديهن من فواكه يمكن الإستفادة منها في صناعة المربى.
ومع بداية شهر أيلول يأتي موسم المكدوس المُعدّ من الباذنجان والجوز والفليفلة. وبعد استكمال إجراءات السلق والتحضير، يُكبس في الزيت. وتوضع الأواني الزجاجية إلى جانب أخواتها على الرفوف المخصّصة، وما بين كل تلك الأنواع والأصناف تأتي «القاورما» في طليعة الأصناف فهي باهظة نسبياً كونها من لحم الخروف، وهي تطهى بطريقة خاصة مع كميات معينة من الملح وتستخدم في الكثير من المأكولات وخصوصاً في القرى والمناطق الجبلية التي تنقطع عن المدينة ويصعب على سكانها شراء اللحم الطازج كل يوم. ولكن مع ارتفاع الأسعار وكلفة المواد الأولية المستخدمة في المونة، تراجع عدد كبير من العائلات عن تحضيرها هذا العام، فيما قامت عائلات أخرى بتخفيف الكميات واقتصارها على الأصناف الضرورية من الحبوب والكشك والمكدوس.
توضح الحاجة سعاد لـ»نداء الوطن» أنها إعتادت تحضير المونة الشتوية منذ سنوات طويلة، وتعلّمت طرق التحضير عن والدتها وبدورها علّمت بناتها، تقوم كل عام بالمهمّة لتأمين موائد الشتاء، وتحضّر كل عام نحو 20 كيلو من الكشك لعائلتها المكوّنة من خمسة أفراد لتكفيهم طوال العام، وما الى ذلك من حاجات، غير أنّ هذا العام كان ثقيلاً عليها، فالكشك تراجعت كمّيته إلى النصف، كذلك المكدوس، وبعدما كانت تشتري 50 كيلو، اقتصر الأمر هذا العام على 15 كيلو نظراً لارتفاع أسعار الجوز والزيت، أما القاورما فكانت خارج القائمة، الغلاء هذا العام فرض علينا تقنيناً قاسياً في الكمّيات والأصناف».
وفيما تراجعت عائلات عن الكمّيات المعتادة عليها، حُرمت عائلات أخرى من المونة الشتوية واستغنت عنها لعدم قدرتها على تأمين المبالغ المطلوبة، رغم معرفتها بأنها تساعدها على مواجهة جوع الشتاء وفي غياب المال، لكنها ارتضت بالمثل القائل: «العين بصيرة واليد قصيرة».